عبد الله الطحاوي
“هذا رجل سلك إلى مكانه بين أبناء مصر الكبار، وسيبقى معهم في ضمير المصريين حيًا وسيجيء أمثالُهم بإذن الله”، بهذه الكلمات أنهى الأستاذ المستشار طارق البشري دراسته عن الزعيم المصري الكبير أحمد حسين، وبهذا المقتبس أبدأ مقالي الذي أنعى فيه شمسًا من شموس مصر مستصحبًا رثاء أمير الشعراء في وفاة سعد زعلول:
شيعوا الشمس ومالوا بضحاها وانحنى الشرق عليها فبكاها
أتذكر حين هاتفته عند سفري قبل سنوات أن صوته كان واهنًا ممزوجًا بالهدوء والترقب، لكنني استشعرت أن قلبه لا يزال ساربًا في يقينه، لم أكن أدري أن هذا آخر عهد لي بالأستاذ المفكر القاضي طارق البشري الذي عرفته واقتربت منه في تسعينيات القرن الماضي حينما كانت القاهرة تنشط بالمنتديات والصالونات الوافرة، كان ضمن ثلة من المفكرين الإسلاميين العائدين من مرجعية اليسار ثم مضوا يحرثون في تربة الفكر الإسلامي ويقدحون أزند أبنائه، هي المجموعة التي كان من ضمنها الأساتذة عمارة، والمسيري، وعادل حسين، فكان يقف معهم على الأرضية ذاتها، ومن قبلهم د. أبو المجد؛ رحم الله الجميع، وقد لحق بهم متقدمًا في السن د. سيف عبدالفتاح إسماعيل، حفظه الله.
كانت مرحلة هؤلاء المفكرين الكبار هي المرحلة الأخصب في حياة الفكر الإسلامي المعاصر من حيث الإنتاج والتأثير، وكذلك من حيث جذب وتشجيع جماعات بحثية كبيرة على أن يحملها شوق المعرفة على الاستمرار في تخصيب هذا الفكر؛ ومن ضمن هؤلاء الأساتذة رفيق حبيب، وهشام جعفر، وإبراهيم البيومي غانم، وهبة رؤوف، وكثير من الباحثين والمفكرين في الجامعات المصرية، وقد أشهر المستشار مظلته المديدة فآل إليها كل توّاق إلى المعارف الثقيلة وقلّما ندّ عنها أحد من التلامذة، وقلما خلت أوقات أحدهم من فرصة مراجعة أو تقديم أو مناقشة منه لأعمالهم البحثية، فكان من أنبل ما في الأستاذ البشري ودائعه التي أنزلها في وجدان وعقول تلامذته.
أشهر المستشار مظلته المديدة فآل إليها كل توّاق إلى المعارف الثقيلة وقلّما ندّ عنها أحد من التلامذة
أما مدرسة أستاذنا البشري فهي مدرسة إصلاحية بامتياز، فقد كان هو النائب الأول لمجلس الدولة المصري الذي يدرك بعمق ما معنى الدولة، وكان صاحب عقل فقهي وقانوني متبحر، وقلب صوفي ملتهب بالمحبة الصافية لأمته، وكان يؤمن بضرورة تطوير مؤسسات الدولة المصرية في اتجاه مرجعيتها، وفي اتجاه الإرادة الشعبية، ولم يفصل بين الإرادة الشعبية ومرجعية الشريعة، فكان يرى أنهما جزء واحد، وحضور أي منهما يمكّن الفكرة الأخرى من الظهور، ومن ثمّ كان مشجّعًا بوجه تام لفكرة الديمقراطية وسيادة الأمة، والإصلاح السياسي والقانوني، ليس على صعيد الكتابة والبحث فحسب، بل أيضًا عن طريق المشاركة الفعالة في النضال القانوني، فقد كانت دفوعاته القضائية في غاية الانسجام مع هذين المبدأين، وكذلك كتاباته التاريخية، والسياسية، فضلًا عن نضاله الحركي وسط جماعات المفكرين في إطار الجماعة الوطنية، ولا تُنسى مقالاته التي كتبها في جريدة “العربي الناصري” في بداية الألفينيات تحت عنوان “أدعوكم إلى العصيان”.
سافرت مع الأستاذ البشري مرات عدة، وأذكر في أحد حواراتي معه سؤالي له عن طفولته؛ إذ أخبرني أنه كان طفلاً وقوراً، وقال: إن هذا الوصف أطلقه عليه أحد أساتذته في المرحلة الابتدائية، ثم أرسل ضحكة هادئة من ضحكاته وقال: “وكان هذا مبعث دهشة لوالدي الذي رأى أن الوقار في الطفل أمر غريب”، والحق أن أهم ما يميز البشري هو ذلك الوقار المهيب وهذا التواضع الجم، والأدب الرفيع، فعندما تراه تتجلى أمامك صورة القاضي في أبهى معانيها وأصفاها؛ القاضي الصامت الذي لا يحب أن يتداخل صوته مع أصوات الآخرين، فإذا قاطعه أحد صمت، وإذا تكلم متكلم أثناء كلامه توقف، ولا تعرف هل ذلك اعتراض منه أم تواضع؟ وكل من يعرفه يجب أن يلوذ بالصمت حتى يتركه يتكلم، لأنه ينطق على مهل، ينفصل هنيهة ثم يعود، بعد أن أبحر يسائل البحر عن أحشائه من الدر الكامن.
أما إذا دخلت عالمه المعرفي، فلن تجد أمامك أفصح من كتابه الكبير “الحركة السياسية في مصر” مفتاحاً لتحوّله من أرض إلى أرض؛ هذا الكتاب الذي صدر في خريف عام 1972 هو الذي تحدث في طبعاته اللاحقة عن تحوله من اليسار إلى المدرسة الحضارية، وكانت نقطة التحول تتجلى في أسئلة كانت تنهال عليه تارة مدحًا وتارة نقدًا، تستفسر عن سبب عدم معالجته لتاريخ الإخوان المسلمين بروح الجبهة الواحدة باعتبارهم جزءًا من الجماعة الوطنية، كما فعل مع سائر التيارات، وكان ردّه “إنهم لم يعالجوا أمرًا بروح الجبهة”، وكان يظن أن في تلك الإجابة ما يكفي لكن هذه الحالة من النقد ظلت، كما يحكي، تحوك في صدره وضميره، ولفتت نظره ملاحظة تقول: “كيف يمكن أن يكون التيار الإسلامي شعبيًا وله كل هؤلاء الأنصار ثم نعدّه غريبًا؟”، ثم وصل إلى العيب المنهجي قائلاً: “وكان النظر الخارجي إلى الإخوان هو ما عاقني عن التنقيب عن الدلالة الوطنية لشعبيتهم”، فشعبيتهم مردّها إلى ارتباط المصريين بالإسلام، ومن ثمّ فكل فكرة قريبة من الإسلام هي قريبة من المصريين؛ “فلم يكن التيار الإسلامي إذًا تيارًا شاردًا ولا طارئًا، ولم يكن وضعًا يتجافى مع أصل آخر؛ إنما كان هو الأصل”.
لم يفصل بين الإرادة الشعبية ومرجعية الشريعة؛ فكان يرى أنهما جزء واحد، وحضور أي منهما يمكّن الفكرة الأخرى من الظهور
وللأستاذ البشري -رحمه الله- طريقة فريدة عند قراءة مسار الأفكار والمؤسسات والجماعة الوطنية، إذ يشغله -كما كان يقول- الإطار الحركي المعيشي أكثر مما تشغله الصياغات الفكرية التي ينحتها المفكرون عنها، ورأيه أن صياغة المفكرين تبدو كمواد التحضير في المعامل نقية صافية، لكنها معزولة نوعًا ما في تركيبها وصفائها المثالي، أما الفكر المعيشي في اختلاطه، وتداخله مع الواقع، فيعبّر عن نفسه بالسلوك، والعلاقات، وتكوين المؤسسات، وكذلك في تصدّيه للمشكلات، حسب ما يؤكد، ولعل هذا المنهج كان أحد أسباب اختلاف كتاباته وقوّتها، ورأيي أن هذا المدخل المتتبع لحركة الناس هو الذي أكد بداخله صدق تحوله، إذ إن كل تعمق في الحياة العادية للمصريين بعيداً عن حجب بعض الكتابات يوصل تلقائياً إلى نبض المرجعية الحضارية الإسلامية.
أذكر أنني عام 2004 كنت قد حاورت أسقف الشباب الأنبا موسى، وهو رجل عرف بالهدوء والوداعة، بشأن إسلام إحدى المسيحيات، وقد حُجبت في أحد الأديرة، فقدم نيافته دفوعات محاججًا فيها عن الكنيسة بعدد من الحجج العرفية والقانونية، وردّ عليه المستشار البشري في حوار مطول معي، ونشر كل هذا الجدل في صحيفة “آفاق عربية” المصرية، ونشبت بسبب ذلك معركة فكرية كبيرة، كتب فيها الأستاذ البشري بعد ذلك وغيره من المفكرين والكُتَّاب ممن نقدوا موقف الكنيسة وسلوكها، والحق، حتى على ألسنة مخالفيه، أن البشري لم يخرج عن نهجه المعتاد من الاعتدال، والرصانة، والقوة في الحق والمسؤولية الكبرى تجاه الوطن.
______________________________
(*) المصدر: “الجزيرة.نت” (بتصرف يسير).