تناولت سورة يوسف عدة قضايا، وتحدثت عن أوضاع اجتماعية تمر بها الشعوب وأزمات اقتصادية تحل بالدول، وتمثلت هذه القضايا في زوايا متنوعة يمكن لكل شخص قراءتها بما يلائم تخصصه وقراءته، وهذا ما أعطى للسورة حيوية ديناميكية في التفاعل مع الواقع ومتطلباته، حيث يمكن القول إن الحياة الإنسانية تمر بها أوضاع متقاربة رغم تباعد مسافاتها الزمانية وتغير أمكنتها الجغرافية وتعدد أحداثها التاريخية، فمن تلك الأوضاع التي تقترب فيها حياة الشعوب، ويتعقد وجود حلول ظرفية لها، مثل الأزمات العاصفة والاستبداد المستحكم في المصائر والفساد المنتشر وسوء التخطيط لمواجهة متاعب الحياة التي تمر بالشعوب.
وهنا جاءت سورة يوسف تتحدث عن أوضاع تشابه هذه المعطيات وتقدم حلولا لهذه المشكلات، فكانت هناك من بين ما قدمته السورة أفكار إدارية ومشاريع تنموية نعرضها في السطور التالية.
أفكار إدارية لمواجهة الأزمة
لم يكن افتتاح السورة بـ”أحسن القصص” أمرا عفويا اقتضته ضرورة النثر وسليقة الكلام، كما يرى البلاغيون في جوانب من تسويغاتهم للشعر والنثر؛ بل الأمر يختلف في نظرنا عن القراءة السائدة للسورة والموضوع، فكانت هنالك جملة معطيات تتقدمها أفكار إدارية وحلول استثنائية لمواجهة الأزمات الاقتصادية الخانقة التي تمر بها أمة ما أو دولة ما، فكان التناسب أحسن القصص المشتمل على أحسن الخطط الناجعة لحل مشكلة اقتصادية، وأهم هذه الأفكار لمواجهة الأزمات الاقتصادية التنبؤ بالأزمة، وتوقع مدتها الزمنية.
تعتمد النظريات الحديثة في قراءتها للأزمات على معايير منهجية تراعي الموجود من الإمكانيات، وقدرته على مواكبة المستقبل، كما اعتمد يوسف عليه السلام في توقعاته على معطيات الزراعة والحصد، وبين مدة الرخاء والشدة بناء على التقديرات الإنتاجية من المحصول، وهذا ما يجعل القارئ أمام نظرية مهمة ودراسة إدارية في مجال الدراسات المستقبلية، دقيقة التوقع، مستنفرة الجهود الجماعية، {تزرعون سبع سنين دأبا} وهنا تبرز القيمة الإنتاجية ودورها في مجال الاستقلال والحضارة، فلا تستقل أمة بكامل قرارها بدون أن تعتمد على نفسها في الشدة والرخاء في حاجتها من المنتجات الزراعية والغذائية، وفي هذا السياق تتأكد العلاقة بين الحضارة والإنتاج، فلا حضارة ذات بصمات فنية خاصة بدون إنتاج مستقل، فحينما تنتج أمة منتوجا معينا، فهو عنوان لها في لغتها وثقافتها وتقدمها، ولعل هذا ما غاب كثيرا عن حضور القراءة الجادة للقرآن الكريم المشبَّع بنظريات الحياة ودولتها بين الأمم وفق أسباب منهجية لا تحابي أحدا.
التخطيط الإستراتيجي في السورة
اتجهت بوصلة التخطيط الإستراتيجي في السورة إلى منحيين؛ الجانب الأول هو توقع الأزمات الاقتصادية قبل وقوعها، والثاني التخطيط المحكم لتجاوزها بشكل سليم، أو الاستعداد لها حتى لا تكون آثارها كارثية على المجتمع والشعب.
على صعيد التنبؤ، يحدثنا القرآن بأن الحوار الذي دار بين المستفتي والمفتي يوسف الصديق كما تصور الآيات الثلاث من 46 إلى الآية 49، حيث تنبأ لهم عن مستقبل مكون من شقين برهة رخاء وبرهة شدة، تمر بحالتين 7 شداد وعام فيه يغاث الناس في معيشتهم وأرزاقهم، كما يتصور اليوم في عالم المجاعات، التي تطحن دولا بعد رخائها بدون أن تأخذ العدة، وهي في أوج نعمها، وتلك سمة الغفلة الحضارية التي تصيب الأمم في لحظة سباتها القاتل، وقد عبرت عن تلك الغفلة بداية السورة {وإن كنت من قبله لمن الغافلين} عن التخطيط للمستقبل، الذي جاءكم التنبيه في سورة يوسف بضرورة مراعاته والاستعداد له، وهو ما غاب عن التفكير الإسلامي اليوم في ظل تقدم حضاري مادي لأمم أخرى، أما على صعيد التخطيط، فقد جاءت الآيات بخطة إدارية محكمة تبدأ بترشيد الطاقة وعدم تبذيرها؛ لتكون زادا في لحظة العسر والشدة، التي ستأتي بعد مدة، وفي هذا السياق ترشيد للطاقة وصيانة للجهد من الهدر والتضييع، حيث لا رخاء دائم ولا عسر دائم.
الأزمات الاقتصادية تؤزم الوضع وتغير الأنظمة
السياق القرآني في سورة يوسف يصور مشاهد متعددة وفق القارئ وخلفياته؛ لكن الذي نود الإشارة إليه هنا في هذا السياق هو العلاقة بين الأزمة الاقتصادية وتغيير الحكم، وهذا ما حصل وفق نسق النص القرآني، فلم تلبث التغيرات الاقتصادية التي حلت بالمجتمع من رخاء وشدة حتى بدأ الحكم يتغير، ويدخل يوسف ميدان الحكم والإدارة؛ ليحل فيها بأمانته التي صورها القرآن في أنه حفيظ أمين، تلك المرحلة الأولى من دخول السلطة؛ ليتمكن بعدها، وحيث جاء التمكين له {مكنا ليوسف في الأرض} بعد أن تعرف عليه الناس، وأصبح محل ثقتهم، لينتقل به المطاف إلى مرحلة تغيير الحكم النهائي {آتيتني من الملك}، كل هذه المراحل التي مرت بالشعب هي محطات تاريخية في حياة الشعوب، وتغير أنظمتها، فطبيعة الأزمة أن تحدث تغيرا جذريا في المفاهيم، ففي عالمنا المعاصر ما إن مرت الأزمة الاقتصادية العالمية لسنة 2008 حتى بدأت أنظمة تتهاوى، وكراسٍ تتساقط في عالمنا العربي المعاصر، تلك سنن تجري في عالم تغيرات الشعوب ومراحل تطورها، وقد أشار القرآن لجوانب منها ما زالت إلى اليوم لم تدخل دراساتنا المعاصرة لنقص التحليل والقراءة التلقينية السائدة، فالأزمات الاقتصادية تؤرق الشعوب وتهز الدول والأنظمة، كما نرى اليوم بشكل أوضح.
استشراف المستقبل
إن من أهم قواعد التعامل مع الحياة ومعطياتها ما يعرف اليوم باستشراف المستقبل، وهو ما يسعى العالم للأسبقية فيه، والتنافس في مضمار المستقبل أضحى الآن ميدانا للتقدم ومقاسا للقوة والتحكم في مصائر الشعوب، فالحياة لا تعرف التوقف عند من تقاعس أو ركن إلى الخنوع والتخلف، فالسير إلى المستقبل يخطو بوتيرة سريعة لا تعرف الكلل والملل في ميدان ما دون ميدان، واستشراف المستقبل بشكل صحيح يظل حاكما بالتقدم والتقهقر على أصعدة عدة.
في ختام هذه السطور لنترك القارئ مع الآيات، التي تركّز حول بيان بعض مضامينها هذا المقال المتواضع ليفيد ويستفيد منها بشكل مستقل وفق ميوله وقراءاته الخاصة به.
{يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُون (49)} [يوسف: 46-49].
صدق الله العظيم.