صورة المسألة:
مع انتشار جائحة كورونا، وظهور سلالات جديدة منها، وزيادة أعداد المصابين في كثير من دول العالم، بما في ذلك دولنا الإسلامية، فقد نحت بعض الدول إلى فرض الحظر إما الكلي أو الجزئي، وفي الحظر الجزئي لا يستطيع بعض الناس صلاة المغرب والعشاء، أو صلاة العشاء في المسجد بسبب الحظر، في حين أن بعض الدول فرضت الحظر لكنها سمحت للمصلين الذهاب إلى المسجد للصلاة.
التكييف الشرعي:
تندرج هذه المسألة تحت قضية جمع الصلوات وبيان أسبابها، وهي في الجملة- مع الاختلاف الوارد بين الفقهاء في تفاصيلها-: ” السفر، والمرض، والمطر والبرد والطين، والخوف، والجمع بغير هذه الأسباب.
وجمهور الفقهاء على جواز الجمع في السفر، عدا الحنفية، الذين لا يجيزون جمع الصلوات إلا في عرفة والمزدلفة، فلا يجوز عندهم الجمع لا للسفر أو غيره من الأعذار.
وعلى هذا، فمحل الإجماع في مسألة جمع الصلوات، هو الجمع بين الظهر والعصر في عرفات جمع تقديم في وقت الظهر، وبين المغرب والعشاء جمع تأخير في مزدلفة في وقت العشاء للحاج.
واختلف الفقهاء في علة الجمع بين الصلوات في عرفة ومزدلفة، فقيل: هي النسك، وقيل: هي السفر.
ودليل جواز جمع الصلاة للسفر عند الجمهور ما ورد في صحيح مسلم عن معاذ رضي الله عنه قال: ” خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فكان يصلي الظهر والعصر جميعًا والمغرب والعشاء جميعًا “.
وفي جمع الصلاة للمرض خلاف بين الفقهاء، فجوزه المالكية والحنابلة، ومنعه الشافعية مع الحنفية الذين لا يجيزون الجمع أصلًا، واستدل المالكية والحنابلة بما ورد في صحيح مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ” جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء من غير خوف ولا مطر ” وفي رواية: ” من غير خوف ولا سفر “.
أما الجمع بسبب المطر، فجائز على مذهب جمهور الفقهاء – عدا الحنفية-، واستدلوا أيضًا بحديث ابن عباس.
وفسر مالك والشافعي رحمهما الله أن ذلك بعذر المطر، ولم يأخذ الجمهور بالرواية الأخرى وهي قوله: ” من غير خوف ولا مطر “.
ولأنه ثبت أن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم كانا يجمعان بسبب المطر.
أما الجمع للخوف فهو مذهب الحنابلة وبعض الشافعية وهو رواية عن المالكية، وعمدتهم حديث ابن عباس:” من غير خوف ولا مطر”، وقالوا: الخوف أولى.
الجمع لغير هذه الأعذار:
أما الجمع لغير هذه الأعذار، فمذهبان عند الفقهاء:
الأول: مذهب جمهور الفقهاء، وهو منع الجمع لغير هذه الأعذار، وذلك أن الجمع رخصة، والرخصة لابد فيها من دليل، ولا دليل لجمع الصلوات غير ما ورد.
الثاني: يجوز الجمع في الحضر من غير خوف، ولا مطر، ولا مرض.. وهو قول جماعة من أهل الحديث لظاهر حديث ابن عباس، ولما روي من الآثار عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم من أنهم كانوا يجمعون لغير الأعذار المذكورة.
قال ابن جزي في القوانين الفقهية 1/ 75 ط دار الفكر: ” وأجاز الظاهرية وأشهب الجمع بغير سبب”.
وأبان ابن رشد سبب الاختلاف في هذا، (فقال: ” وسبب اختلافهم: اختلافهم في مفهوم ابن عباس، فمنهم من تأوله على أنه كان في مطر، كما قال مالك، ومنهم من أخذ بعمومه مطلقًا، وقد خرج مسلم زيادة في حديثه، وهو قوله: ” في غير خوف ولا سفر ولا مطر”، وبهذا تمسك أهل الظاهر”. بداية المجتهد 1/ 207 طبعة المكتبة الأزهرية للتراث)
ونقل النووي عن ابن المنذر قوله: ” وجوزه ابن سيرين؛ لحاجة، أو مالم يتخذ عادة”. المجموع شرح المهذب 4 / 384 ط دار الفكر
ونقل ابن قدامة رأي ابن شبرمة كقول ابن سيرين، ثم عقب قائلًا:” ويجوز أن يتناول من عليه مشقة، كالمرضع، والشيخ الضعيف، وأشباههما ممن عليه مشقة في ترك الجمع.
كما تأول ابن قدامة أن الجمع صوري، فقال:” ويحتمل أنه صلى الأولى في آخر وقتها، والثانية في أول وقتها، فإن أحد رواة حديث ابن عباس وهو جابر بن عمرو قال لجابر أبي الشعثاء: أظنه أخر الظهر وعجل العصر، وأخر المغرب وعجل العشاء. قال: وأنا أظن ذلك. (المغني لابن قدامة 2 / 205 ط مكتبة القاهرة)
الجمع بسبب الحظر:
وله حالتان:
الحالة الأولى: أن السلطات تفرض الحظر على الناس وتمنعهم من الخروج، وتسمح لمن أراد الصلاة أن يذهب إلى صلاة الجماعة في المغرب والعشاء، ففي هذه الحالة لا يصح الجمع، ومن جمع فصلاته باطلة، وعليه الإعادة؛ لأن السبب المبيح للجمع غير موجود أصلًا.
الحالة الثانية: أن وقت الحظر يتناول المغرب والعشاء معًا، أو العشاء فقط، فإن كان يتناول المغرب والعشاء، فلا يجوز الجمع ابتداء، وعلى الناس أن تصلي الجماعة في بيوتهم؛ لأن من شروط الجمع أن تصلى إحدى الصلاتين في المسجد، ولتعلق الجمع بصلاة الجماعة في المسجد.
أما إذا كان الحظر يشمل العشاء دون المغرب، فهنا محل خلاف بين الفقهاء المعاصرين، ومن أشهر من منع دار الإفتاء الأردنية، واستدلت بأن الجمع بين الصلوات رخصة؛ لابد لها من دليل، ولا يقاس عليه.
وممن قال بالمنع الشيخ عبد الكريم بن الحصين، فقال: لا يجوز الجمع لهذا السبب، وإنما يُصلي المغرب في المسجد مع الجماعة؛ لأنه لا يَدخل في الحظر، وصلاة العشاء إذا مُنع من الوصول إلى المسجد فيُصليها في بيته، وتكون جماعةً في البيت؛ لأنه ممنوع.
ومن أشهر من أجاز، الشيخ محمد بن الحسن الددو الفقيه الموريتاني، والشيخ محمد صالح المنجد استدلالًا بحديث ابن عباس، كما أجازه الشيخ عبد الحي يوسف؛ قياسًا على الجمع للمطر، وقال: المانع الرسمي أقوى من المانع الطبيعي.
والراجح في المسألة: جواز جمع صلاة العشاء مع المغرب في المسجد بسبب الحظر، إن كان وقت العشاء يدخل في الحظر، وذلك لما يلي:
أولًا– أن مقصود الجمع هو عدم قدرة المصلين للعودة إلى المسجد في صلاة العشاء بعد صلاة المغرب بسبب المطر ونحوه، وهو نفس السبب الموجود في الحظر، بل هو أقوى، فإن الرجل قد يقدر على العودة إلى المسجد في المطر، لكنه لا يقدر على العودة إلى المسجد في الحظر.
ثانيًا– أن الجمع المقصود به إقامة الجماعة في المسجد، وعدم سقوطها، وهو مقصود شرعًا، فإن إقامة الصلوات في المساجد من المقاصد الشرعية، كما قال تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36]
ثالثًا– أن المنع مع الإجبار أقوى من المنع مع الاختيار، وإذا جاز مع الاختيار، فجوازه مع الإجبار أولى.
رابعًا– أن الاستدلال بمواقيت الصلاة ليس محلًا في الحديث عن الجمع؛ لأنه استثناء مشروع، وإلا سقط الجمع مطلقًا.
خامسًا– أن هذا الجمع هو من باب الرخص الجائزة، وليس من الرخص الواجبة، فالناس بالخيار، من أراد أن يجمع مع الجماعة في المسجد؛ فلا حرج عليه، ومن أراد أن يصلي العشاء في بيته فلا حرج عليه، وهما مسألتان منفكتان، لا جامع بينهما، فإن القول بالجمع متعلق بالمسجد في صلاة الجماعة على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء، خلافًا للحنابلة.
سادسًا– أن الجمع بين الصلوات إنما يتعلق بالحظر، وهو طارئ مؤقت؛ فينتهي الحكم بانتهائه، وليس على الدوام، وهو تفسير ابن سيرين وابن شبرمة لحديث ابن عباس: أن لا يتخذ عادة.