جاء الرسول صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام للناس كافة، حاملاً إياهم على التغيير نحو الأفضل وتحقيق مفاهيم النهضة واليقظة في نفوسهم، ولعل من أهم الوسائل التي اتبعها النبي صلى الله عليه وسلم في تربيته لأصحابه رضوان الله عليهم ومخاطبة المجتمع هي تلك التربية الوقائية التي تهدف إلى حماية الأفراد وتحافظ على سلامة الفطرة الإنسانية في نفوسهم، من خلال توجيههم نحو الطريق القويم والغاية المثلى، وقيادتهم نحو الطهارة والنبل والصلاح، من أجل تحصينهم من الوقوع في مفاتن الحياة وشهواتها ووقايتهم شر العقبات في طريق حياتهم.
ولذا، ترى القائمين على أمر التربية يسلكون هذا المسلك في طريقهم نحو إيجاد الفرد المسلم، من خلال حرصهم على الاعتناء بتحقيق المناعة الذاتية الأصيلة في نفس المتربي، وإرشاده إلى الطريق الصحيح دون تكلفة زائدة أو ضياع لجهده ووقته، ودون خسارته أو سقوطه في الشهوات والملذات، فتراهم يعايشون المتربي في كل لحظة وفي كل موقف، يرسمون له الحواجز، ويرفعون له السدود؛ وقاية له من الضرر الواقع أو المتوقع دون أن يعزلوه عن محيطه ومجتمعه، وكل ذلك من خلال عملية تربوية توجيهية متكاملة الأهداف والغايات، لإخراج مجتمع الخير والفضيلة المحقق لهدف الله من الخلق في الاستخلاف والعبادة.
والمراد بالتربية الوقائية: هي اتخاذ إجراء بهدف الحماية والصيانة، والوقاية غالباً من خطر محتمل وشيك، وتكون بتفاديه قبل وقوعه، حفاظاً على الأفراد، وصيانة للمجتمعات، وتحقيقاً للسلامة العامة، وتداركاً للمحظور قبل وقوعه، أخذاً بمبدأ: الوقاية خير من العلاج.
وهذا النوع من التربية هو أصل التربية القرآنية وما عمل به النبي محمد عليه الصلاة والسلام في تربيته لأصحابه، فالكثير من الآيات جاءت تغرس في نفوس المسلمين وازعا داخلياً ورقابة ذاتية كقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 30-31]، وقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32]، ونبه على ذلك حتى في العلاقات والآداب الاجتماعية لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]، وكلنا يعرف وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبدالله بن عباس رضي الله عنهما، في الحديث: “كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي: يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف”. رواه الترمذي، وكلها وصايا قيمة تغرس في نفس المتلقي المناعة الذاتية، وتكسبه الحصانة النفسية وتضعه في طريق الحياة متحصناً من كل ما يحيط به، ومستشعراً مراقبة الله تعالى له في كل لحظات حياته.
كيف البداية؟ ولماذا؟
على المربي اليوم وهو يخوض غمار التربية الوقائية التي تتيح له أن يتم مساره نحو مراقي الكمال بتدرج وباتزان، أن يبدأ في ذلك من خلال مسح عام وشامل لحالة المتربي الذي بين يديه، يطّلع من خلاله على بيئته وأفكاره، وميوله واهتماماته، وظروفه واحتياجاته، بل ويتعرف فيه على قدرات المتربي وتحديد نقاط القوة والضعف لديه، ذلك لأن “النهج الذي يعتمد على تفعيل القدرات الذاتية وإيجاد المناعات الخاصة واكتساب الطاقات الوقائية ابتداء وقبل دخول معترك الصراع وحقول التجارب فإن من شأنه أن يحفظ البنية سليمة على مستوى الفرد وعلى مستوى الجماعة كما من شأنه أن يوفر الطاقات من أن تهدر بلا طائل ويعمل على خفض نسبة الخلل إلى الحدود الدنيا”، ومن ثم يمكنه تحديد المنهج المناسب والوسائل المثلى التي يجب عليه أن يتعاطى معها في سبيل نجاح العملية التربوية التي يقودها، وكل تلك العمليات المتتابعة التي يسلكها المربي مع من حوله وفي مختلف المجالات كالعقيدة والعبادة والجانب التشريعي وحتى الجانب الاجتماعي، كلها تقوم على مجموعة من الأسس التي تعتمد عليها الوقاية، ومنها: العلم ومعرفة أصول الأشياء، بالإضافة إلى الرحمة والشفقة والخوف على المتربي من الضياع والتيه، ولا بد أن تقوم بعيدة عن المصالح الشخصية وعلى ثقة عالية بالمبدأ الراسخ التي تستند إليه الدعوة.
الوقاية من الفشل في الوقاية
أحيانا نفشل نحن معشر المربين في تحقيق الوقاية لمن حولنا، ولعلنا نوجز أسباب ذلك إلى:
1- عدم استكشاف شخصية الأفراد الذين نقدم لهم جرعات الوقاية وطبائعهم المختلفة.
2- عدم اختيار المادة التربوية الحسنة المناسبة، أو عدم تطبيقها وتقديمها بصورة جيدة إن كانت موجودة لدينا نظرياً.
3- أننا لم ننطلق للبناء على أسس تربوية ثابتة راسخة تقف على أرض صلبة.
4- عدم امتلاكنا نحن المربين للمقومات الأساسية التي تمكننا من تحقيق الوقاية والنجاح في إكساب الأفراد حصانة منيعة من البيئة المحيطة.
وللوقاية من فشل التربية الوقائية في محاضننا التربوية علينا أن نتجنب كل ما سبق ذكره وأن نحرص كل الحرص على تمكين المتربي وتأهيله، والعمل على توفير البيئات الجاذبة للأفراد، والسعي نحو إيجاد مادة تربوية مناسبة تطبق بشكل مناسب وبالطاقة القصوى لذلك.
أخيراً.. ومع كل الحرص على تجنب الفشل في تحقيق الوقاية للأفراد، ومع كل الجهود المبذولة في ذلك، ولكن يبقى أن بعض الأجسام بطبيعتها تمتلك مناعة ضعيفة هشة، فلربما الفشل خطوة جيدة لعلاج ناجع ناجح، لذا لا يأس أيها المربي ولا مفر لك أيها المتربي فإن لم ينفعك درهم الوقاية فسنبذل لك ومعك قنطاراً من علاج.
_________________________
(*) المصدر: موقع “بصائر”.