لعل من نافلة القول التأكيد على أن الحق والباطل مستمران استمرار الليل والنهار، لا ينفك أحدهما عن الآخر، وأن الصراع بينهما صراع أزلي، مكتوب له أن يستمر حتى قيام الساعة، ومع اليقين بهذا الصراع، هناك ثوابت إنسانية لم يكن العقلاء يتخيلون يوماً أن يخرج من يجادل فيها أو يبرر ضدها، لأنها باختصار محل اتفاق بين بني البشر جميعاً.
الاحتلال مرفوض مدان مشجوب مستنكر، لا يمكن قبوله، وتعامل الضحية الطبيعي مع هذا الذي احتل وقتل وشرد لا يمكن مطلقاً أن يتخيله إنسان، هكذا حكمت الحضارات والأديان والأيدولوجيات منذ قديم الأزل.
لكن آخرين لهم رأي مغاير، خرجوا علينا ليلبسوا أفعال حكامهم عمائم الفقه والفتوى، وليؤكدوا أنهم علموا ما غفل عنه علماء المسلمين على وجه الخصوص، وكل أحرار العالم عامة.
عمائم كثيرة لمعت في سماء التطبيع، أضحت علامة عليه، ألبسوه زياً فقهياً ليخدعوا العوام والبسطاء، وساقوا ما توهموا أنه أدلة ومبررات لما اتخذوه من مواقف.
وفي هذه المساحة، سنحاول إلقاء الضوء على أشهر المبررات الدينية، ونرى كيف تكفَّل علماء الأمة المعاصرون والسابقون بالرد عليهم ربما قبل أن يوجدوا.
ظهر بين الحين والآخر من حاول هدم أول حجر في جدار الحرمة البدهية للتطبيع، حين تعالت أصوات تنادي بزيارة القدس الشريف.
حُمَّى التطبيع دخلت أقطاراً عربية تحت حجج العيش المشترك مستشهدين بتعاون النبي صلى الله عليه وسلم مع اليهود في المدينة!
وأكد هؤلاء وقتها أن الأمر جائز، بل رفعه أحدهم لمرتبة الوجوب، مستشهداً بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يطوف حول الكعبة المشرفة وهي تحت سيطرة كفار قريش.
ومع مرور الوقت، تطورت الأمور لدى هؤلاء عقب حمى التطبيع التي دخلت أقطاراً عربية كثيرة؛ حيث تحدثوا عن وجوب التطبيع، بعد جوازه، مؤكدين أنه لازم من أجل ضمان عيش مشترك، مستشهدين بأن الرسول صلى الله عليه وسلم تعاون مع اليهود بالمدينة وعقد وثيقة المدينة معهم.
بل حاول دعاة التطبيع قلب الحقائق ووصف الرافض للتطبيع بأنه مخالف لتعاليم الإسلام وآثم شرعاً؛ لأن اليهود من أهل الكتاب الذين أمرنا الله بالتعاون معهم، وأن المطبّع أقرب إلى الله وصحيح الدين!
تطور عجيب من الحديث عن مجرد زيارة لدعم القضية، إلى حديث عن جواز؛ دعماً لصلح تلتقط معه الأنفاس، إلى إفتاء بوجوب حتى يعم السلام، إلى حديث عن إثم شرعي يلحق مخالف التطبيع ومناهضه لأنه يخالف صحيح القرآن الذي أمرنا بالإحسان إلى اليهود!
فهذا هو قاضي قضاة فلسطين د. محمود الهباش يقول: «زيارة القدس في ظل الاحتلال «الإسرائيلي» واجبة على كل مسلم وعربي؛ لأنها تسهم في الاطلاع على معاناة أهلها جراء الاحتلال وجرائمه بحق المقدسيين والحرم القدسي الشريف».
وهذا هو وزير الأوقاف المصري الأسبق د. حمدي زقزوق يقول: «أرحب بالدعوة لزيارة المسجد الأقصى، بدليل زيارة الرسول صلى الله عليه وسلم للكعبة المشرفة وهي تحت سيطرة كفار مكة ولم يمتنع عن زيارتها».
أما الداعية وسيم يوسف، فقد نشر العديد من التغريدات عبر حسابه علة «تويتر»، يؤكد فيها أن قرار التطبيع يخدم فلسطين كما يسهم في إحلال السلم في العالم!
وهنا ننقل فتوى للشيخ جاد الحق، شيخ الأزهر الأسبق، رحمه الله، الذي أفتى بأن من يذهب إلى القدس في ظل احتلالها آثم شرعاً.
وقال في نص فتواه: «لا سلام مع المغتصبين اليهود، ولا سلام إلا بتحرير الأرض العربية، ومن يذهب إلى القدس من المسلمين آثم آثم، والأولى بالمسلمين أن ينأوا عن التوجه إلى القدس حتى تتطهر من دنس المغتصبين اليهود، وتعود إلى أهلها مطمئنة يرتفع فيها ذكر الله والنداء إلى الصلوات».
بين التطبيع والصلح الجائز
تعلل كثيرون من مروجي التطبيع بأنه صلح، فعل مثله رسول الله صلى الله عليه وسلم، مؤكدين أنه تصالح مع اليهود في المدينة بمختلف قبائلهم، وأقام معاهدات معهم.
وقد أصدرت رابطة علماء فلسطين فتوى شرعية للرد على هذه الدعوى، في العام 2019م، جاءت بعنوان «حكم الإسلام في التطبيع مع العدو الصهيوني المحتل لأرض فلسطين».
وأوضحت الرابطة أن الصلح المزعوم ما هو إلا تطبيع يعني تمكين اليهود من أرض المسلمين، وعلى رقاب شعب مسلم.
وأكدت الرابطة أن ما يتم الآن ما هو إلا استسلام للكفار وإضاعة للدين وللأراضي الإسلامية، مشددين على أن الصلح الشرعي المجمع عليه هو: الصلح مع الكفار إن دعت المصلحة على وضع الحرب مدةً معلومة إن كان عقداً لازماً، أو مدة مطلقة إن كان عقداً جائزاً ممكن الفسخ وقت الحاجة.
وأوضحوا أن هذه هي حدود الصلح الشرعي بالإجماع، أما الصلح أو الاتفاقيات المتضمنة تنازلات عقدية وإلغاء لأحكام شرعية فهذا صلح باطلٌ شرعاً بالإجماع، بل هو حقيقته استسلام ونكوص عن الشريعة وتخلٍّ عن بعض أحكامها، كما أن الاتفاقيات التي وقعت مع الاحتلال لم ينتج عنها سوى الخيبة والذل.
وأكدت الرابطة حرمة الصلح والتطبيع مع العدو الصهيوني من منطلق الأدلة الشرعية العديدة وواقع الحال والمآل، قائلين: «لا يجوز لأحد كائناً من كان أن يعقده بتلك الصورة، وإذا وقع كذلك فإنه يقع صلحاً باطلاً، ويعتبر الصلح والتطبيع مع العدو الصهيوني باطلاً وجريمة في حق الأمة وأجيالها، ومخالفة صريحة لأحكام الشرع».
واستشهدت الرابطة بالعديد من الأدلة التي تؤكد فتواها، وأبرزها أنه إذا كان الله أوجب القتال لإنقاذ المستضعفين فكيف نصالح الصهاينة المحتلين صلحاً يمكنهم من المستضعفين من المسلمين في فلسطين وهذا مما يتضمنه التطبيع، كما أن الصلح القائم والتطبيع الجاري يمثل ظلماً على الشعب الفلسطيني؛ لأنه ينكر حق الشعب الفلسطيني في أرضه، ويقر زوراً بحق اليهود عليها، مع ما يترتب على ذلك من تجريم وعدوان على المقاومة وكأنها معتدية، والتضامن مع العدو وكأنه ضحية معتدى عليها، فضلاً عن تمزيق الأمة وانقسامها على نفسها.
حرام شرعاً وخُلقاً
وفي معرض الردود على تلك التبريرات، خرج قرابة 500 عالم يمثلون الدول الإسلامية ومختلف المذاهب، وذلك في التاسع من يناير2020م، حيث أصدروا فتوى تحرم التطبيع مع سلطات الاحتلال «الإسرائيلي»، أو عقد اتفاقات معها على حساب حق الفلسطينيين في استعادة أرضهم، أو التنازل عن مكتسبات القضية.
وأكدت الفتوى أن «التطبيع الذي تتبرع به بعض الأطراف العربية هو خدمة لـ»إسرائيل» وطوق نجاة لها، وهو دعم واستدامة لاحتلالها، ومكافأة لها على جرائمها وتشجيع لها على الاستمرار فيها، ثم هو فتح لأبواب الاختراق والهيمنة لهم على جميع الأصعدة»، مشيرة إلى أن «موقف الشريعة من هذا التطبيع بهذه المعاني لا يمكن أن يكون إلا التحريم الشديد والرفض التام، بل حتى الموقف الإنساني والأخلاقي، لا يمكن أن يكون إلا على هذا النحو».
ووجهت الفتوى انتقادات لبعض العلماء المحسوبين على السلطات ممن يبررون مسار التطبيع، مؤكدة أن «فتاوى هؤلاء ومواقفهم، إنما تصدر عن الأهواء، لكن هذه الأهواء في الأصل هي أهواء حكامهم، ولذلك لن تجد عالماً واحداً مؤيداً للتطبيع إلا وهو ينفذ إرادة ولي أمره».
وعند الغوص في تاريخ القضية، سنجد أنفسنا أمام سيل هادر من فتاوى فردية ومؤسسية عمرها أكبر وأقدم من أعمار معظم هؤلاء الذين أفتوا بجواز التطبيع!
وهنا يمكننا الإشارة لمجموعة من الفتاوى التي صدرت بتحريم كل أنواع التطبيع، بدءاً من الاعتراف به أصلاً وبحقه في الوجود على أشلاء شعب عربي مسلم، وليس انتهاء بإقامة علاقات معه، وفتح سفارات وتنظيم فعاليات كما يحدث الآن.
البداية تاريخية بامتياز، ولعل عرضها يفند كل تلك المبررات الواهية لدعاة التطبيع.
«علماء فلسطين»: الصلح المزعوم تطبيع يعني تمكين اليهود من أرض المسلمين على رقاب شعب مسلم
– البداية مع أول فتوى تصدر عن علماء فلسطينيين صدرت في العام 1935م على يد عالمين تتلمذا في الأزهر وتخرجا فيه، هما الشيخ محمد رشيد رضا، تلميذ الإمام محمد عبده، والشيخ أمين الحسيني، حيث اجتمعا آنذاك مع عدد من العلماء في مؤتمر علماء فلسطين الذي عقد بالمسجد الأقصى وأعلنوا بالنص: «بعد البحث والنظر فيما ينشأ عن بيع الأراضي في فلسطين لليهود من تحقيق المقاصد الصهيونية في تهويد هذه البلاد الإسلامية والمقدسة وإخراجها من أيدي أهلها وإجلائهم عنها، تقرر تحريم بيع الأراضي في فلسطين لليهود وتحريم السمسرة على هذا البيع والتوسط فيه وتسهيل أمره بأي شكل وصورة، وتحريم الرضا بذلك كله والسكوت عنه».
– أفتى شيخ الأزهر الأسبق عبدالمجيد سليم، عن سؤال ورد للجنة الفتوى بالأزهر حول حكم من يبيع أرضه لليهود أو يعمل سمساراً لترويج هذا البيع؟ وجاء في الفتوى: «الرجل الذي يحسب نفسه من جماعة المسلمين إذا أعان أعداءهم في شيء من هذه الآثام المنكرة وساعد عليها مباشرة أو بواسطة لا يُعد من أهل الإيمان، وعلى المسلمين أن يعادوا هؤلاء وينبذوهم ويقاطعوهم في متاجرهم ومصانعهم ومساكنهم ومجتمعاتهم».
– بعد إعلان الأمم المتحدة، في 29 نوفمبر 1947م، قرارها بتقسيم فلسطين، أصدر علماء الجامع الأزهر وعلى رأسهم شيخ الأزهر الإمام محمد مأمون الشناوي، والشيخ محمد حسنين مخلوف، مفتي الديار المصرية، وغيرهما بيانهم المدين للقرار، ووصفوه بأنه «قرار من هيئة لا تملكه، ويعد قراراً باطلاً جائراً ليس له نصيب من الحق ولا العدالة، ففلسطين ملك للعرب والمسلمين، بذلوا فيها النفوس الغالية والدماء الزكية، وليس لأحد كائناً من كان أن ينازعهم فيها، فقاطعوهم في تجارتهم ومعاملاتهم».
– في نفس شهر إعلان إنشاء «إسرائيل»، عقد اجتماع بالأزهر برئاسة شيخ الأزهر وضم عدداً كبيراً من علماء الأزهر واستقر رأيهم بالإجماع على ثلاثة أمور:
أولها: أن إنقاذ فلسطين واجب ديني على المسلمين عامة في جميع نواحي الأرض.
الثاني: مطالبة الحكومات بتهيئة المأوى والنفقة للعرب المشردين من فلسطين، باعتبار ذلك واجباً دينياً في عنق كل مسلم وعربي.
الثالث: إبلاغ هذا القرار جميع الحكومات الإسلامية والجامعة العربية ونشره في جميع الشعوب الإسلامية، تبليغاً لحكم الله.
– في المؤتمر الثاني لمجمع البحوث الإسلامية عام 1965م، طالب المجتمعون الدول الإسلامية التي اعترفت بـ»إسرائيل» بأن تسحب اعترافها، وأن تتوقف الدول والشعوب الإسلامية في التعاون مع «إسرائيل»؛ لأن قضية فلسطين هي قضية المسلمين جميعاً.
– قبيل حرب يونيو 1967م، أصدر الأزهر بيانه بشأن الاعتداء على فلسطين، مؤكداً أن بقاء «إسرائيل» في الأرض المقدسة خطر على المقدسات الإسلامية بها.
وقال البيان نصاً: «لهذا ندعو المسلمين جميعاً إلى قطع العلاقات الاقتصادية والسياسية مع «إسرائيل»، ولا بد من إنشاء صندوق لتمويل كفاح أبناء الشعب الفلسطيني ورعاية أسر المجاهدين والشهداء».
تلك هي الفتاوى الحقيقية التي سجلها التاريخ بكل شرف وفخار لعلماء دافعوا عن ثوابت الأمة ومقدساتها، وبها من الأدلة ما يدحض كل الدعاوى والتبريرات التي ساقها مؤيدو التطبيع.