إن قيل: لماذا نستشير؟!
نقول: لأمور أربعة:
1- تقصير المستشير عن معرفة التدبير.
2- الخوف من الخطأ في التقدير.
3- الحاجة إلى مشورة مَنْ رأيه صافٍ من تكدير الهوى مُبْصرٍ بوجوه الآراء.
4- استئلاف المستشار وإغراؤه لمعونته، فربما كان في الفعل شريكاً أو عليه معيناً.
وإن قيل: لماذا كان رأي المستشار أفضل من رأي المستشير؟!
نقول: لأن رأي المستشار معرى من الهوى. فإن المشاور قد يكون له في بعض الأمر هوى ولبعض الوجوه ميل، فلربما جنح إلى هواه، ومال إلى غرضه، والمستشار إنما يُعطي لباب عقله وصفو رأيه وخالص نظره.
يقول أبو الحسن الماوردي رحمه الله: ولا ينبغي أن يتصور المرء في نفسه أنه إن شاور في أمره ظهر للناس ضعف رأيه وفساد رويته، حتى افتقر إلى رأي غيره، فإنَّ هذه معاذير النوكى؟
وليس يراد الرأي للمباهاة به، وإنما يراد للانتفاع بنتيجته والتحرّز من الخطأ عند زلـله، وكيف يكون عاراً ما أدّى إلى صواب، وصَدَّ عن خطأ. ولقد ورد: “لقِّحوا عقولكم بالمذاكرة واستعينوا على أموركم بالمشاورة”.
لذا ينبغي أن يكثر المرء من استشارة ذوي الألباب لا سيما في الأمر الجليل، فقلَّما يضلّ عن الجماعة رأي أو يذهب عنهم صواب، لأن إرسال الخواطر الثاقبة وإجالة الأفكار الصادقة، لا يعُزب عنها ممكن، ولا يخفى عليها جائز.
واعلم أنَّ المستشار في الأمور يجب امتحانه بالاختبار، حتى يخلص من الأوصاف التي تخل بالنصيحة.
فإذا عزم المرء على المشاورة، ارتاد لها من أهلها من قد استكملت فيه خصال، منها:
الأولى: العقل الكامل بطول التجربة مع الفطنة والذكاء. فإنه بكثرة التجارب تصح الرويّة. قيل: لأن الأحمق الجاهل إذا استشرته، زاد في لُبْسك وأدخل عليك التخليط في رأيك ولم يقم بحقيق نصحك. وكان يقال: احذر مشاورة رجلين: شابٍ مُعْجبٍ بنفسه قليل التجارب في غيره، أو كبيرٍ قد أخذ الدهر من عقله كما أخذ من جسمه.
قال عبد الله بن الحسن لابنه محمد: احذر مشاورة الجاهل وإن كان ناصحاً، كما تحذر عداوة العاقل إذا كان عدوّاً، فإنه يوشك أن يورِّطك بمشاورته فيسبق إليك مكر العاقل وتوريط الجاهل. وقيل في منثور الحكم: كل شيء يحتاج إلى العقل، والعقل يحتاج إلى التجارب. وقال بعض الحكماء: التجارب ليست لها غاية، والعاقل منها في زيادة. وقال أحدهم: مَنْ استعان بذوي العقول، فاز بدرْك المأمول.
الثانية: الدين والتقوى. فإن ذلك عماد كل صلاح وباب كل نجاح، ومَنْ غلب عليه الدين، فهو موفَّق العزيمة مأمون السريرة. عن عمر رضي الله عنه أنه قال: شاور في أمرك مَنْ يخاف الله عز وجل.
الثالثة: المحبة الحاملة على خلوص النصيحة. فإنَّ النصح والمودة يَصْدُقان الفكرة ويُمْحِضان الرأي. قيل: لأنه إذا كان كذلك أمنت من غشّه، واجتهد لك في نصحه، ونظر في أمرك بجميع أجزاء قلبه. قال بعض الحكماء: لا تشاور إلا الحازم غير الحسود واللبيب غير الحقود وإياك ومشاورة النساء، فإنَّ رأيهن إلى الأفن وعزمهن إلى الوهن. وقال بعض الأدباء: مشورة المشفق الحازم ظفر، ومشورة غير الحازم خطر.
الرابعة: سلامة الفكر من مكدرات صفوه. بأن يكون سليم الفكر من همٍّ قاطع وغمٍّ شاغل، فإن مَنْ عارضت فكره شوائب الهموم، لا يسلم له رأي ولا يستقيم له خاطر. وقد ذكروا ممَنْ عُرض له ذلك أصنافاً، فالجائع حتى يشبع، والعطشان حتى يقنع والأسير حتى يطلق، والضال حتى يجد، والراغب حتى يمنح، وصاحب الخف الضيق وحاقن البول وصاحب المرأة السليطة ومعلم الصبيان وراعي الغنم والكثير القعود مع النساء، ومَنْ لا دقيق عنده.
الخامسة: البراءة مـمَّا له في الأمر المستشار فيه من هوى يساعده وغرض يقصده. فإنَّ الأغراض جاذبة، والهوى صاد، والرأي إذا عارضه الهوى، وجاذبته الأغراض فسد.
السادسة: الجمع بين العلم بالمستشار فيه، والعمل به. ففي الأفلاطونيات: شاور في أمرك مَنْ جمع بين العلم والعمل ولا تشاور مَنْ انفرد بالعلم فقط، فيدلك منه، على ما يتصوره الفهم ولا يخرج إلى الفعل.
السابعة: كتمان السِّر الذي يطلع عليه عند استشارته. قيل: لأنه إذا اطلع على رأيك، بعض أصدقائه أو غيرهم من جلسائه، أخبر كل صديق صديقه وفاه كل جليس إلى جليسه، حتى يصل أمرك إلى عدوك ويتصل رأيك بأهل بُغْضك، فيبتغون الغوائل، ويفسدون الرأي قبل إحكامه.
الثامنة: سلامته من غائلة الحسد. قيل: لأن الحسد يبعث أهل المحبة على البغضة، وذوي الولاية على البعد والفُرقة، وحينئذٍ يتعمد ضَرُك بجميع الوجوه التي تتقيها على نفسك، وتكون داعية إلى فساد رأيك.
التاسعة: عدم استلزام نصحك ضره، أو ضُرَّ أحدٍ من الأعزة عليه، قيل: لأنه إذا أدّى نصحك إلى ضُرّه أو بعض شيء من أمره، لم يفضّلك على نفسه ولم يخصُك بنصحه وكذا إن أضرَّ ذلك بإخوانه.
العاشرة: إخباره عن موجب تقصيره عن مطلوب المستشير له، كالبخل والجبن والحرص. فقد كان يقال: لا تدخل في رأيك بخيلاً، فيقصر فعلك، ولا جباناً فيخوفك ما لا تخاف، ولا حريصاً، فيعدك ما لا يُرجى.
فإذا استُكملت هذه الخصال في رجل، كان أهلاً للمشورة ومعدناً للرأي، فلا يُعْدل عن استشارته، اعتماداً على ما يتوهمه المستشير من فضل رأيه، فإنَّ رأي غير ذي الحاجة أسلم، وهو من الصواب أقرب لخلوص الفكر وخلو الخاطر مع عدم الهوى وارتفاع الشهوة.
وهنا ننبِّه على أنه ينبغي ألا يمنع من المشورة وصفان:
أحدهما: خمول المستشار وحقارته. فإنَّ الحكمة ضالة المؤمن، حيثما وجدها عقلها. قال الطرطوشي: ولم يزل العقلاء على اختلاف مذاهبهم يطلبون صواب الرأي من كل أحد حتى الأمة الوكعاء.
الثاني: صغر سنه، لأنه ربما فاق في إدراك الصواب الكهول والمشايخ. فقد كان يقال: عليكم بآراء الأحداث ومشاورة الشباب. فإنَّ لهم أذهاناً تفل الفواصل وتحطم الذوابل.
يقول النووي يرحمه الله: يستحب لـمن هَمّ بأمر أن يشاور فيه. ثم عليه عند الاستشارة وظائف، منها:
الأولى: أن يصدق في التعريف بقصده، من الأمر المستشار فيه، بحيث لا يترك شيئاً مما يعلم فيه من مصلحة أو مفسدة. في الأفلاطونيات: إذا شاورت مَنْ يضطلع بالمشورة عليك، فاصدقه عنك فيها، وفي كثير مما يتحرك إليه طباعك، ليقف من صدقك، على ما يوجبه الحق فيها. واعلم أن مغادرة المشير عليك في الرأي، بمقدار ما خلفته عنك من الصدق.
الثانية: ألا يلتمس الرخصة من المستشار، مخافة الزلل بمخالطة الهوى في ذلك. جاء في الحكم الهندية: إنَّ مَنْ التمس من الإخوان الرخصة عند المشورة ومن الأطباء عند المرض ومن الفقهاء عند الشبهة، أخطأ الرأي وازداد مرضاً وحمل وزراً.
الثالثة: أن يستكثر من المشاورين، ما أمكنه استظهاراً على الوثوق بالرأي المشار به عليه. قال النووي: ويستحب أن يشاور جماعة ويستكثر منهم.
الرابعة: أن يتواضع للمستشار معه، ولا يترفع عن التنزل له في استهداء ما يشير مما يظهر له صوابه.
وأما ما يطالب به المستشير بعد المشورة فلذلك جملة وظائف، منها:
الأولى: القبول، قال النووي: وهو فائدة المشاورة إذا لم تظهر المفسدة فيما أشار به المستشار. قال ابن الأزرق: ولا عليه من ظهورها بعد ذلك، إذ بعد جهدك لا تلام. وقديماً كان يقال: مَنْ اجتهد رأيه وشاور صديقه، فقد قضى ما عليه.
الثانية: الإعراض عن ملام المستشار عند ظهور خطأه. قالوا: إذا أشار عليك أحد برأي، أفضى فيه إلى الغلط، وزلّ به عن الصواب، فلا تأخذنَّ في تأنيبه وتوبيخه، فإنَّ الآراء ربما خفيت وجوهها، وغابت أسبابها وليس كل الرأي مقطوعاً به، وإذا لمته على غلطه، مع صحة قصده، آذيته وقطعت غيره من النصحاء عن نصحك.
الثالثة: التأني بالفعل، ريثما تحصل الثقة بالرأي، وتصمِّم العزيمة عليه. قال أرسطو: إذا صحَّ الرأي مع المستشار، فلا تعجل إنفاذه ولا تركه، واتركه يختمر يوماً وليلة، إلا فيما يخاف فواته، فاستخر الله تعالى وعجِّله. لذا قيل: الرأي الخمير خيرٌ من الرأي الفطير. وكان يقال: كل رأي لم تتمخض فيه الفكرة ليلة كاملة، فهو مولود لغير تمام. وفي محاسن البلاغة: في الروية تبيان الرأي، وفي تبيان الرأي نصح الاعتزام. وقيل: ولما كان أمضى السيوف ما بولغ في إرهاف حده، وإجادة صقله، كان أرجح الآراء ما كثر امتحانه وأطيل تأمله.
الرابعة: تقديم الاستخارة قبل العزم على إمضاء ما تمخضت عنه المشورة. قال ابن الحاج: الجمع بين الاستخارة والاستشارة من كمال الامتثال للسُّنة، إذ بركتهما ظاهرة، فينبغي ألا يقتصر على أحدهما، فإن كان لابد من الاقتصار فعلى الاستخارة. ومن كلام الحكماء: أربعة لا تستغني عن أربعة: الرعية عن السياسة، والجيش عن القادة، والرأي عن الاستشارة، والعزم عن الاستخارة.
الخامسة: ترك الالتفات بعد المشورة والاستخارة إلى ما يتخرص به على علم الغيب. وله أمثلة منها:
التنجيم، لقولـه صلى الله عليه وسلم: (مَنْ اقتبس علماً من النجوم، اقتبس شعبة من السحر) رواه أبوداود.
التطير، لقولـه صلى الله عليه وسلم: (ليس منّا من تطيّر أو تُطيِّر لـه، أو تكهّن أو تُكهِّن لـه أو سحر أو سُحر لـه ومَنْ أتى كاهناً فصدّقه فيما يقول، فقد كفر بـما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) رواه البزاز. قال بعض العلماء: مُنع من ذلك، لأنه سبب لكسر النية ونقض العزيمة وتشويش الخاطر، مع ما فيه من تعطيل الإحالة على الأقدار السابقة، وإساءة الظنّ بالله تعالى وشغل القلب بـما لعلّه لا يحدث أبداً.