بعد أن روّجت المخابرات الأمريكية لما يسمى التعبير عن الفردية في الفنون المختلفة: الأدب، المسرح، السينما، الفنون التشكيلية.. طوال فترة الحرب الباردة، إلى أن تمكنت السيادة الغربية من ناصية العالم بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وانهيار حلف وارسو، أخذت القوة المهيمنة الآن -المركزية الأوروبية والأمريكية- تروّج لما تسميه الالتزام وتدعمه، وهو التزام يختلف عن الالتزام الشيوعي أو الماركسي، إنه هذه المرة التزام يعبّر عن الانتماءات الضيقة (الجنسية، الطائفية، المذهبية، العرقية، الفكرية، النسوية..)، تحت مسمى التنوع الثقافي أو التنوع الخلاق، ويطلقون عليه أحيانًا التنوع الهويّاتي؛ نسبة إلى الهويّة!
في كلتا الحالين تَنتُجُ ثقافةٌ تستجيب لمن يدفع للزمار وفقًا لتسمية السيدة ف. س. سوندرز، وتحقق أهدافه غير الإنسانية، فإذا تخلى الفنان أو الأديب أو الباحث عن الالتزام بالمعنى الإنساني الشامل والضمير النقيّ، فإنه يقدّم ثقافة أنانية عنصرية وحشية تشيع في أرجاء المجتمعات، وتؤذن بتفككها وتمزقها. مثلما تفعل فكرة الالتزام الهويّاتي تمامًا.
اللافت في المسألة أن التعبير عن الالتزام الإسلامي مرفوض في الأولى والآخرة!
الالتزام الإسلامي يفيض على الإنسانية كلها رحمة وتعاونًا وتسامحًا وتعاطفًا وخيرًا..
دخول الحظيرة
قبل ربع قرن تقريبًا، أعلن وزير أسبق للثقافة بمصر أن الدولة سيطرت على المثقفين، وأنهم -وفق تعبيره- دخلوا الحظيرة، لم يكن الوزير صادقًا تمامًا فيما قاله، صحيح أنه استطاع إدخال المثقفين الاستعماليين إلى حظيرته، وفرضهم على المشهد الثقافي بل جعلهم يتصدّرونه ويحظون بعطاياه وغنائمه: الجوائز، الندوات، المؤتمرات، التفرغ، النشر في الصحف والمجلات ودور النشر الرسمية والصحفية، الوظائف الصّورية في قطاعات الوزارة المختلفة، مقابل مرتبات غير مستحقة.. وكل ذلك مقابل التصفيق للوزارة وسياستها الفاشلة في مواجهة من يرون قصورها وتقصيرها، والتعبير عن ولائها للثقافة الغربية في جانبها السلبي والمبتذل.
هناك نوع استعصى على دخول الحظيرة، هذا النوع احترم نفسه ومبادئه ورسالته الثقافية، إنه المثقف الرسالي أو المثقف العضوي، صحيح أنه حُرم من نعمة الجنة الحظائرية وعطاياها، ولكنه متسق مع نفسه وقيمه وأخلاقه، وصحيح أيضًا أنه يتعرض لمكايدات الحظيرة وإسفافها؛ ويعيش التعتيم والتهميش والإقصاء والاستئصال، ولكنه يظل في حدود من يعرفونه، ويتابعون ما يقدمه نموذجًا مؤثرًا مضيئًا لا ينطفئ ولا يتلاشى.
فاشية مقيتة
المفارقة أن الحظائريين يدعون إلى التنوع والتعدد وحرية التعبير وحق الاختلاف، وفي الوقت نفسه يمارسون فاشية مقيته قوامها الإرهاب الفكري والمكارثية والوشاية واستعداء السلطات، والإقصاء والاستئصال!
يقول أحدهم: “علَّمنا أساتذتنا أننا ما دُمنا في الجامعة فكل شيء قابل للاختلاف، وأنه لا يوجد يقين قَطّ إلا بعد أن يكون هناك اختلافات، كما علَّمونا أن في الشك العافية العقلية، وأن التردّد في قبول الأمور ومُساءلتها أولى العلامات التي تقود إلى المعرفة الموضوعية”.
وهذا كلام لا غبار عليه، ولكن الواقع السلوكي يكذبه ويجعل صاحبه فصاميًا، فإذا كان حق الاختلاف مشروعًا في البحث العلمي، فما الذي يجعله يرحب مثلًا بدراسة كتابات شاعر مثل أدونيس يرفض الإسلام والوحي ويدعو إلى نقد القرآن الكريم ولا يكف عن السخرية من المسلمين وتراثهم المضيء، ولا يرى حسناً في هذا التراث إلا كل ما هو قبيح ودميم ومؤذ، وفي الوقت نفسه لا يقبل باحثاً في شعر الإمام مصطفى صادق الرافعي وإنتاجه الأدبي والفكري؟ ولا يتورع عن وصف الرافعي بأنه رجل لا يرقى فكره للقراءة فضلًا عن الدراسة، وأنه ليس حداثياً، وأن المجتمعات لا تنهض بالتراث ولكن بنفض أتربة الماضي واستشراف المستقبل، السؤال: أين هو الاختلاف والتنوع والتعدّد كما يزعم؟ هل جريمة الرافعي أنه مسلم يؤمن بالتصور الإسلامي والهويّة الإسلامية الإنسانية الشاملة؟ إن الرافعي مجدّد بمعايير زمانه، واعتمدت الدولة أبياتاً من شعره لتكون نشيداً وطنياً ما زالت الأجيال تردده على مدى قرن من الزمان حتى، ثم هو الذي كتب أروع النثر الشعري الذي سطا عليه أدونيس، وصحّح كثيراً من الشطحات للمشاهير من صنائع الغرب والاستعمار، وصاحب أسلوب في مدرسة البيان لا يماثله أسلوب، وقسْ على الرافعي كثيرين من أمثاله الذين يؤمنون بالإسلام والتصور الإسلامي، حيث يتم تحقيرهم ورفض عرضهم على منصة البحث العلمي، لأنهم يتحركون داخل الدائرة الإسلامية التي يرفضها زعماء الحظيرة، بينما يتم الترحيب بدراسة أنصاف الموهوبين وأشباه الأدباء وصعاليك الماركسيين والليبراليين والطائفيين وغيرهم ممن يعيشون “فوبيا” الإسلام.
منتج تاريخي
وعلى المنوال نفسه، يزعم بعضهم أن الترقية الجامعية هي ترقيةٌ، المحك فيها ليس اتفاق الآراء، وإنما اختلافها، فإذا تأكدوا من منهجية المُساءلة، وسلامة الأقيسة المنطقية، حكموا بسلامة ما هو معروض عليهم وقيمته في آن.
ويبدو هذا الكلام الصادر عن أحد كبار الحظائريين سليماً، ولكنه مغاير للواقع أيضاً، لا بأس أن يختلف الناس في كل شيء عدا الطعن في عقيدة المسلمين وثوابتها، وتزوير التاريخ لصالح نظريات مادية معادية للإسلام، يمكن أن أختلف حول المتنبي والمعري، والجاحظ وعبدالقاهر، وشوقي وحافظ، وطه حسين والعقاد، وغيرهم.. ولكن توظيف البحث العلمي لرفض الإسلام والقرآن والزعم أنه منتج تاريخي أظنه أمراً لا يليق بصاحب عقل، هل يحدث طعن في اليهودية والنصرانية والبوذية والهندوسية والوثنية عند أصحابها في أبحاث علمية؟ الطعن في الإسلام لا يمت بصلة إلى الحياد المنهجي، بل يجعل من الباحث أو الباحثة مُتعصبًا ومُغاليًا في استحسان أو استقباح قضية ليست مطروحة في العمليات المنهجية للقياس.
نسف الفكرة
عندما ندافع عن بحث علمي مقدم للترقية ينافح عن الماركسية ضد الإسلام، ويزوّر التاريخ بجعل الإمام الشافعي مثلاً عميلاً للدولة الأموية، وفي الوقت نفسه نهاجم بحثاً آخر لأنه يتبنى التصور الإسلامي، ونرفضه لأنه رجعي وفقاً لأدبيات الحظيرة الثقافية، فهذا نسف لفكرة التنوع والاختلاف والتعدد؛ (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (البقرة: 44).
تطرح الحظيرة عبارات صحيحة، ولكنها تتهاوي أمام الواقع الملموس، وخاصة حين تمارس فاشيتها المقيتة ضد المخالفين بالإقصاء والاستئصال، أو التشويه والتشهير، أو الوشاية والاستعداء، من ذلك قولهم: “الثقافات تزدهر مع الاختلاف”، ويستشهدون بالثقافة المصرية بوصفها ثقافة «تنوع خلاق» يحقق القوة والمغايرة في آن، ففيها كما يرون ما يربطنا بمصر الفرعونية، وفيها ما يربطنا بمصر القبطية! وفيها ما يربطنا بمصر الفاطمية والمملوكية، وفيها فضلًا عن ذلك كله ما يربطنا بالعالم الحديث، وفي هذا الكلام بعض المغالطات، فمصر لم تكن قبطية بالمعنى الكنسي في يوم من الأيام، وأتباع الكنيسة في عصر الشهداء كانوا أقلية مضطهدة ضمن أكثرية وثنية، تحت حكم الغزاة، حتى حرّرها الإسلام، وأعاد النصارى إلى الظهور في كنائسهم، ثم إن هناك الحكم الأيوبي الذي انتصر على الصليبيين، والحكم العثماني الذي استمر قرابة 4 قرون لم يشر إليهما المثقف الحظائري.
الأوْلى أن نقول: إن ثقافة مصر إسلامية مذ دخلها الإسلام، وتعدّد حكامها، والغزاة الذين مروا عليها، فالثقافة الإسلامية ثقافة هاضمة، تتقبل كل ما هو مفيد من ثقافات الآخرين، وتلفظ ما يضرّ ويؤذي، وكان تفاعلها الخلاق مع حضارات الفرس والهند والإغريق والرومان والمصريين وغيرهم شاهد على سعة الأفق، والسماحة، والوعي بقيمة الثقافة الإنسانية النافعة في إطار من حرية الفكر وحق التعبير والحوار الحر، لدرجة أن المأمون -الخليفة العباسي- كان يجمع في مجلسه متعدّدي العقائد والمذاهب ومن لا دين له، وجعل للترجمة عن الآخرين مكافأة من الذهب تزن أوراق الترجمة.
الثقافة الإسلامية
ولذا، فالثقافة المصرية هي ثقافة إسلامية بامتياز، ولو غطتها أتربة الحظيرة وفضلاتها، هي ثقافة تنوع خلاق لأنها تتفاعل مع معطيات بشرية، قديمة وحديثة تتضمن ما يفيد الإنسانية ويعزّز قيم الحق والخير والمعروف والعدل والتعاون والرحمة، لقد تحولت مصر حتى صارت عقل الإسلام لأن طبيعة أهلها أقرب إلى الفطرة الإنسانية التي جاء الإسلام ليرفع من شأنها وقيمتها، ومن قبل كانت أقرب إلى تعاليم السيد المسيح عليه السلام فلم تعرف العنف ولا التعصب الذي يحاول بعض الموالين للغرب الصليبي في العصر الحديث أن يشدو الكنيسة الأرثوذكسية إليه!
إن فاشية الحظيرة تجتهد في إلصاق العداوة الموهومة للتنوع الثقافي بالإسلام والمسلمين، تحت دعوى كبح زمام العقل، ووجود تناقضات قديمة وتقاليد جامدة وسلفية مُعرقِلة للتقدم، وأظن أنه لا يوجد دين دعا إلى العقل واستخدامه مثل الإسلام، والقرآن الكريم يفيض بآيات كثيرة تحث على إعمال العقل والنظر والتأمل.
لقد أشرق نور الإسلام على الإنسانية وصنع حضارة فريدة علمت العالم، ولكن شياطين الإنس من طغاة ومستبدين وأوباش تابعين لهم ومنافقين يذودون عنهم؛ امتلكوا زمام المسلمين في عصور الضعف والهوان، فحالوا بينهم وبين الإسلام وإشراقاته العجيبة.
إن سرقة الإسلام والحرية من قلوب المسلمين وعقولهم حولتهم إلى قصعة الأمم كما تنبأ البشير النذير صلى الله عليه وسلم، أليس عجيباً في بلاد الإسلام أن يعبر اليهودي والمسيحي والبوذي والهندوسي والماسوني والشيوعي والملحد والليبرالي والوثني عن معتقداته وشعائره دون أن يعترضه أحد، بينما المسلم مطارد إذا دخل المسجد وإذا عبر عن عقيدته، وإذا طالب أن تكون حياته وفقاً لشريعته؟ أليس محزناً أن تتولى فاشية الحظيرة تشويه الإسلام ووصمه بنعوت الإرهاب والداعشية والتخلف والرجعية والتعصب والتطرف والوصاية على الفكر والأخلاق؟ أليس من العار أن يصف الحظائريون والمرتزقة إسلامنا العظيم بأنه ضد التقدم العلمي والإنسانية؟
الإرهاب والنفايات
لقد تمكن الحظائريون -للأسف الشديد- من وسائط الإعلام والثقافة طوال ستة عقود فخربوا الثقافة وأفسدوا الأدب، وتسافلوا بالمسرح وهبطوا بالسينما، وجاء جيل منهم لم يتورعوا عن وصف الدين والأخلاق بالإرهاب والنفايات.
قبل شهور، أقيمت ندوة شعرية قام فيها بعضهم بتشويه الذات الإلهية والدعوة إلى البغاء المقنن، ورفض الزواج الذي أقره الشرع والقانون، وقدم بعضهم الآخر كلاماً فاضحاً وبذيئاً عن الجنس، وحين استنكر الناس ما جرى، إذا بهم يرتدون ثياب الشهداء، ضحايا الإرهاب الداعشي، وزعموا أن هناك من يهددهم بالقتل، ثم راحوا يستعدون السلطات على صاحب اللحية الكثة البيضاء والزبيبة في جبهته، والناقد الإرهابي الذي اتهم القصيدة بازدراء الأديان، ويمتلئ دماغه بالنفايات والمخلفات الفكرية؛ أي الإسلام والأخلاق.. والمفارقة أنهم لا يستطيعون انتقاد مسؤول كبير أو صغير في السلطة مثلما ينتقدون الذات الإلهية!
والغريب أنهم يقللون من شأن من ينتقدون انحطاطهم وبذاءتهم وعدوانهم على الذات الإلهية، فيقولون: هذا مدرس أزهري، وذاك إمام مسجد، وذلك محام متطرف، ولا يكتفون بذلك بل يضيفون إليه الكذب والاختلاق، حين يتحدثون عن أنفسهم، فيصفون الهراء الذي يقدمونه بالإبداع الذي يقابل بحفاوة كبيرة!
ملخص للفاشية
لقد أعجبتني سطور منقولة أحاول أن أوجزها قدر الإمكان عن الأستاذ جمال مدكور تلخص فاشية الحظيرة في موقفها من الإسلام بأسلوب عامي عفوي بسيط:
“عمرك سمعت مسيحيًا طالب بمنع قرع أجراس الكنائس؟ أو قلع الراهبات للحجاب، لأن الحجاب تخلف ورجعية؟ أو طالب القساوسة بحلق اللحية لأن اللحية رمز للإرهاب؟ أو إغلاق كنيسة لقلة المصلين فيها؟ أو حذف سيرة مار جرجس الذي قال: إنه قتل التنين لأنه مخرف؟ أو طالب بفصل الدين عن الدولة ومنع الرؤساء من الحلف بالكنيسة؟ أنا شخصياً لم أسمع”!
لكن..
أنا سمعت سافلًا متأسلماً يطالب بمنع الأذان لأنه يزعج الجيران، ومنع الحجاب لأنه تخلف ورجعية، ومنع اللحى لأنها رمز للإرهاب، ووقف العمل بآيات من القرآن، وإغلاق المساجد لقلة المصلين، وحذف سيرة الصحابة لأنها تحض على العنف، ومنع مظاهر الإسلام مثل الجلباب والنقاب، ومطالبة المسلمين والكفار بحصار دولة مسلمة وتجويع شعبها، وفصل الدين عن الدولة وعلمنتها، سبحانه أعزكم بالإسلام فأبيتم إلا أن يذلكم الناس.
فاشية الحظيرة امتدت إلى كثير من أرجاء العالم العربي، وتسمح بالتنوع الثقافي مع كل الملل والنحل إلا الإسلام!