بعد أن تناولنا في الحلقة الماضية النشأة الأولى للدكتور محمد عمارة –رحمه الله تعالى- وتحدثنا عن مسيرته التعليمية وشيوخه الذي تتلمذ لهم والذين أثروا فيه حتى أضحى قلعة فكرية متكاملة البينان، عظيمة المعاني، مهيبة المنظر.. نتناول اليوم معالم المشروع الفكري له رحمه الله تعالى.
معالم المشروع الفكري لعمارة
لقد أثمر الانقطاع الذي انقطعه محمد عمارة مشروعا فكريا مترامي الأطراف تمثل في أكثر من 300 كتاب؛ فضلا عن آلاف المقالات والأبحاث والمداخل الموسوعية في الموسوعات والدوريات والمجلات والصحف والشبكة العنكبوتية؛ وهو الذي قال: “آثرت التفرغ للبحث والكتابة، وتركت الوظيفة الحكومية وزهدت في التطلع للمناصب منذ تخرجت في كلية دار العلوم، وفضلت أن أظل حراً مشتغلاً بالعلم، وأن أكون كالجالس على «الحصيرة»؛ لأن الجالس على الحصيرة لا يصيبه الأذى إذا ما وقع من عليها!”.
وهذا الانقطاع والعكوف – الذي لم ينفك عن الواقع ولا الميدان يوما كما سنبين لاحقا – استطاع أن يقوم بما لا تقوم به مؤسسات ولا مراكز أبحاث، وهو ما قاله المستشار طارق البشري يوم تكريمه في مركز الإعلام العربي في 2 من نوفمبر 2011م؛ حيث قال: “الدكتور محمد عمارة ممكن تسميته بمؤسسة محمد عمارة وليس الدكتور عمارة؛ نظرا لأن ما قام به في مجال الفكر الإسلامي تعجز مؤسسة بأكملها عن القيام به”.
معنى “المشروع الفكري”:
وحتى تكون المصطلحات محررة وواضحة – وهو الذي كتب كتبا عن المصطلحات – فإن معنى” المشروع الفكري” قد سئل هو عنه: ما أهم ملامح هذا المشروع الفكري الذي تتحدث عنه باستمرار؟ فكانت إجابته: “أن نبرز حقيقة الإسلام ومعالمه: العقيدة والشريعة والمنظومة الفكرية، والإحياء الإسلامي للمجتمع، والهداية الإسلامية للإنسان، وعالمية الإسلام، وأيضًا فقه الواقع الذي نعيش فيه وإنزال هذه الأحكام الإسلامية على الواقع الذي نعيش فيه، والتصدي للحرب المعلنة على الإسلام. باختصار: ما هو إسلامنا؟ ما هو الواقع الذي نحن بحاجة إلى فقهه وإلى أسلمته؟ وما التحديات التي تواجه هذا الإسلام؟ هذه هي معالم المشروع الفكري”، ونحاول أن نرصد لكل جانب من هذه الجوانب في المشروع ما يناسبه من مؤلفات د. عمارة على النحو الآتي:
أولا: بيان حقيقة فكرة الإسلام:
كانت عينه دائمة الرصد لقضايا الواقع وحاجات المجتمع، ولم يغب يوما عن قضايا الواقع وما يموج به من أفكار
ومن خلال التأمل في عنوانات الكتب التي تعبر عن منجزه الفكري فإننا نلحظ اهتماما كبيرا وواسعا بـ “الفكرة الإسلامية” وعرضها وبيانها، وقد تجلى ذلك من خلال سلسلات كثيرة، منها: “سلسلة التنوير الإسلامي”، و”سلسلة هذا هو الإسلام”، وسلسلة: “رسائل الوعي الحضاري”، هذه سلسلات وفيها عناوين كثيرة، فضلا عن عنواناته الأخرى، مثل: الإسلام والشريعة الإسلامية، الإسلام وضرورة التغيير، إسلامية المعرفة ماذا تعنى، الإسلام والمستقبل، الإسلام في مواجهة التحديات، الإسلام والثورة، الإسلام بين التنوير والتزوير، الإسلام والفنون الجميلة، الإسلام والأمن الاجتماعي، الإسلام في عيون غربية، الإسلام والحرب الدينية، الإسلام وحقوق الإنسان.. ضرورات لا حقوق، الإسلام والعروبة، الإسلام والأقليات، الشريعة الإسلامية والعلمانية الغربية، الإسلام وحقوق الإنسان، الإسلام والأخر، الإسلام والحرب الدينية، الإسلام والتعددية، الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، الإصلاح بالإسلام، العطاء الحضاري للإسلام، المشروع الحضاري الإسلامي، السماحة الإسلامية… حقيقة الجهاد والقتال والإرهاب، الدين والحضارة، عوامل امتياز الإسلام، مقام العقل في الإسلام، معالم المنهج الإسلامي… كل هذا وغيره يعرض فيه مفكرنا العظيم رؤية الإسلام للقضايا التي يقرنها بالإسلام في عنوانات الكتب.
ثانيا: رصد الواقع وتلبية حاجاته:
أما من ناحية فقع الواقع فكانت عينه دائمة الرصد لقضايا الواقع وحاجات المجتمع، ولم يغب يوما عن قضايا الواقع وما يموج به من أفكار، وما يطرحه من رؤى وقضايا وإشكالات، وقد كانت معاركه الفكرية مبنية على وعيه بالواقع وتحدياته، ومن ذلك معركته مع الكنيسة، ومعركته مع التنصير، ومعركته مع الصهيونية، ومعركته مع المشروع الشيعي الإيراني، وغير ذلك، وقد أصدر في ذلك عدة كتب، منها: الغارة الجديدة على الإسلام، الفاتيكان والإسلام، فتنة التكفير، صيحة نذير من فتنة التكفير، تحليل الواقع بمنهاج العاهات المزمنة، استراتيجية التنصير فالعالم الإسلامي، الأقباط في مصر، في المسألة القبطية حقائق وأوهام، عروبة مصر وأقباطها، أكذوبة الاضطهاد الديني في مصر، الأقباط المتطرفون في مصر، الفتنة الطائفية… متى وكيف ولماذا؟
ومن استجاباته للواقع وتلبيته لحاجاته أنه تداعى لتأييد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2001م، وأصدر فيها كتابا بعنوان: ثورة 25 يناير وكسر حاجز الخوف.
كما كان له اهتمام خاص بقضية فلسطين، وكتب فيها أو مقال له بعنوان: “جهاد” نشر في صحيفة مصر الفتاة عام 1948م، كما كان له كتب عنها، ومن ذلك: فلسطين والقدس، في فقه الصراع على القدس وفلسطين، القدس الشريف رمز الصراع وبوابة الانتصار، القدس.. أمانة عمر في انتظار صلاح الدين، القدس بين اليهودية والإسلام.
ثالثا: التصدي للتحديات التي تواجه الإسلام:
وهذا المحور هو منبثق عن السابق، فالوعي بالواقع يثمر إدراك التحديات ومن ثم التصدي لها، وقد كان يتابع في حركة دائبة التحديات التي تواجه الإسلام، والمخاطر التي تهدده سواء من حقد الكنيسة الغربية والشرقية، وقد أسلفنا عناوين كتب في هذا، أو مؤامرات الصهيونية العالمية، أو ضلالات وجهالات العلمانيين والمتغربين، ومعاركه الفكرية التي خاضها في حياته ضد هذه الجهات جميعا شاهدة على رصده الحثيث للواقع المثمر وعيا بالتحديات والاستجابة لها.
وقد أصدر في ذلك عددا من الكتب منها: التفسير الماركسي للإسلام، الخطاب الديني بين التجديد الإسلامي والتبديد الأمريكاني، مستقبلنا بين التجديد الإسلامي والحداثة الغربية، الإبداع الفكري والخصوصية الحضارية، مخاطر العولمة على الهوية الثقافية، مقالات الغلو الديني واللادينى، الإصلاح الديني في القرن العشرين، في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام، الغارة الجديدة على الإسلام، العلمانية، سقوط الغلو العلماني، علمانية المدفع و الإنجيل، فكر التنوير بين العلمانيين والإسلاميين، العلمانية بين الغرب والإسلام، نهضتنا الحديثة بين العلمانية والإسلام، الحوار بين الإسلاميين والعلمانيين، مأزق المسيحية و العلمانية في أوروبا، تحرير المرأة بين الغرب والإسلام، الإسلام والغرب افتراءات لها تاريخ، الحضارات العالمية تدافع أم صراع.
رابعا: الرد على الشبهات:
إذا كان المفكر صاحب المشروع يهتم ببيان الفكرة وإقامة الدليل عليها، ورصد الواقع والاستجابة لاحتياجاته، ويقف أمام التحديات التي تواجه الإسلام، فإنه مطالب بالقدر نفسه بالرد على الشبهات التي تثار حول الفكرة وحقيقتها وطبيعتها وأدلتها.
وقد أسهم مفكرنا العظيم د. محمد عمارة بنصيب وافر في الرد على الشبهات، وأصدر في ذلك عددا من الكتب، منها: حقائق الإسلام في مواجهة المشككين، نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم، شبهات وإجابات حول مكانة المرأة في الإسلام، رد الشبهات عن الإسلام، شبهات حول القران الكريم، شبهات حول الإسلام، حقائق وشبهات حول السنة النبوية، إزالة الشبهات عن معاني المصطلحات.
كان يتابع التحديات التي تواجه الإسلام والمخاطر التي تهدده سواء من حقد الكنيسة الغربية والشرقية، أم مؤامرات الصهيونية العالمية، أم ضلالات وجهالات العلمانيين والمتغربين
خامسا: الكتابة عن الأعلام:
هذا المحور خارج عن إطار العناصر التي تكون المشروع الفكري، وإنما يستعرض تاريخ هؤلاء الأعلام، ومشروعاتهم الفكرية، ومواقفهم، ومكانتهم وعلمهم.
وقد كتب د. محمد عمارة عن كثير جدا من الأعلام قديما وحديثا، وأصدر في ذلك عددا من الكتب، منها: أعلام الفكر الإسلامي والحديث، عبد الرحمن الكواكبي، عبد الرحمن الكواكبي… طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، عبد الرحمن الكواكبي – شهيد الحربة ومجدد الإسلام، الشيخ عبد الرحمن الكواكبي هل كان علمانيا؟، علي مبارك مؤرخ ومهندس العمران، الإمام محمد عبده.. مجدد الدنيا بتجديد الدين، جمال الدين الأفغاني موقظ الشرق وفيلسوف الإسلام، جمال الدين الأفغاني المفترى عليه، أبو حيان التوحيدي بين الزندقة والإبداع، الشيخ محمد الغزالي.. الموقع الفكري والمعارك الفكرية، قاسم أمين… تحرير المرأة والتمدن الإسلامي، معالم المشروع الحضاري في فكر الإمام الشهيد حسن البنا، الدكتور عبد الرازق السنهوري.. إسلامية الدولة والمدنية والقانون، رفاعة الطهطاوي – رائد التنوير في العصر الحديث، من أعلام الإحياء الإسلامي، شخصيات لها تاريخ، رفع الملام عن شيخ الإسلام ابن تيمية، عمر بن عبد العزيز.. ضمير الأمة وخامس الخلفاء الراشدين، ابن رشد بين الغرب والإسلام.
ومع أنه كتب عن هذه الاتجاهات، وعن هؤلاء الأعلام فلم يكن جزءا من اتجاه ولا ذابت شخصيته في قلب شخصية من الشخصيات التي كتب عنها، ولا تخندق في خندق من الخنادق، وإنما استفاد من كل هذه الاتجاهات، وكل هذه الشخصيات، وكانت له شخصيته المستقلة الناقدة والمجددة.
هذه الجوانب التي تشكل معالم المشروع الفكري للدكتور عمارة يحتاج كل معلم منها إلى دراسة مستقلة بل دراسات تبين منهجه فيها، وعطاءه الذي أعطاه، والجهد الذي بذله، واستمداد كل محور من هذه المحاور، وامتداداتها وآثارها في الفكر والواقع والحياة، وبيان المآخذ التي تؤخذ على كل جانب سواء أكانت هذه المآخذ نواقص تحتاج لتكميل، أم أخطاء تحتاج لتصحيح، أم غوامض تحتاج لتوضيح، وهو بشر ليس معصوما، ويؤخذ من كلامه ويرد عليه.