أثارت مسرحية “بودي جارد” أو حارس خاص التي تم عرضها في القاهرة في تسعينيات القرن الماضي لواحد من أبرز ممثلي الوطن العربي وأكبرهم عمرًا -إن لم يكن أشهرهم على الإطلاق- أثارت المسرحية مؤخرًا لغطًا وضجة على جميع المستويات والأوساط؛ ولم يخل الأمر من استياء عارم وصل إلى حد الوسط الفني نفسه فضلًا عن الثقافي والأدبي وغيرهما؛ وهو ما جعل إحدى الممثلات بالمسرحية ترد بلهجة ونبرة عالية متخلية عن جزء كبير من الحكمة والحنكة اللتين تعرف بهما اللواتي يماثلنها في العمر أو حتى يحاولن أن يعرفن بها؛ أما أصل المشكلة والبلبلة اللتين تصلان إلى حد “المصيبة” فهي أن المسرحية التي دامت لسنوات طويلة وتعاقب عليها الممثلون -عدا أبرزهم وبعض الممثلين من ذوي الأدوار غير الرئيسة- لم يكن الممثل الأشهر يريد أن يبثها تلفزيونيًا في حياته؛ ولعله من قبيل التسويق والتشويق الجماهيري إعلانه إنه يريدها “هدية” لمشاهديه بعد وفاته؛ فلما وجد لها سعرًا أعلى قرر بثها رغم أنه تم تصويرها منذ نحو 21 عامًا وحفظها في العلب منذ ذلك الحين، أما المفاجأة التي لم تكن تخطر لصانعي العمل الفني “المفترض” على بال فهو أن مستوى المسرحية دون “المنتظر” منها بمراحل، وفق القواعد الفنية التي لا تُجامل أو تُحابي، مما جلب ردود فعل غير متوقعة على الإطلاق ومراجعات نقدية “صعبة” على الممثلين فيها؛ ومن جانب آخر أصر مشترو المسرحية على أنها حققت رقم مشاهدات غير مسبوق في يوم إذاعتها و”تسريبها” لتبث مجانًا.
إن مشاهدة قرابة 20 دقيقة فحسب من العمل المذكور المفترض أنه فني بمدته تقارب الثلاث ساعات، مشاهدة القليل منها كافية بمراجعة النفس لا فيما يخص المسرحية فحسب، بل عصر طويل من المسرحيات المماثلة للفنان المسن وغيره من العشرات وأيضًا نتاجهم من الأفلام والمسلسلات والأغاني وما شابه؛ فحين تبدو الحقيقة واضحة يأخذ التفكير بالنفس حتى بعيد لتشارك مخلصين في محاولة قراءة واقعنا المعاش وأبرزه الفني الدرامي بقسميه التراجيدي والكوميدي والأغاني؛ فإذا كان العمل المسرحي الأخير الأشهر المذاع على مستوى وطننا العربي وعلى مدار ثلث الساعة فحسب يسخر من القيم والآداب والمبادئ المستمدة من ديننا الحنيف ويتعمد تكرار الحركات المبتذلة التي تعود عليها جمهوره على مدار أكثر من نصف قرن، ثم إن المسرحية نفسها في النهاية برأي أغلب مشاهديها ومنهم النقاد الفنيون لا تمت للفنون بصلة ولا نسب ولا قرابة على الإطلاق، بل هي مجرد مواقف مخزية وسخرية لاذعة من كل “منطقي” في حياتي، و”إثبات” أن ممثلها المُسن ما يزال على “عرش” الدراما الكوميدية مثلما هو على رأسها بقسم كبير من تراجيدياته ومسلسلاته التي لا تقل في مستواها عن المسرحية.
أما الأسئلة المريرة التي أثارتها المسرحية “المؤلمة” فهي: هل جميع أعمال الممثل كبير السن المسرحية تزيد في مستواها الفني عن مستوى الأخيرة بفارق كبير، أم أن التماثل والتفوق مجرد “تقدير نسبي” يختلف في درجة عشرية من متلق ومشاهد لآخر وجميع أعمال الفنان الكوميدية صورة مصغرة أو مكبرة من مسرحيته الأخيرة؛ وإنما ساهم الإعلام وأحيانًا الأحداث السياسية الملتهبة في القاهرة في إلباس الرجل ثوبًا أكبر من حجمه ومستوى غير مستواه وحيزًا كبيرًا باسم الفن هو في نفسه بعيد عنه ولا يعرفه ولا يليق به؟ ويكفي أن نتذكر أنه في أوج مظاهرات عمت القاهرة في 18 و19 يناير 1977م، أمر الرئيس الراحل أنور السادات بإذاعة أشهر مسرحيات هذا الممثل في نهار المظاهرات الثاني رغبة منه في جذب أكبر عدد ممكن من الثائرين على نظامه إلى بيوتهم وكف تحركاتهم اعتراضًا على ارتفاع الأسعار بما لا تطيقه ولا تستطيعه ميزانيات أغلب بيوتات المصريين؛ فساهمت المسرحية مع الإجراءات الأمنية المعروفة في الحد من انتشار الجماهير في الشوارع؛ فضلًا عن أن المسرحية الأشهر في تاريخ ممثليها لا أحدهم فحسب تم إطلاقها من الأساس في 24 أكتوبر في ذروة حرب العاشر من رمضان وعقب عمليات حربية مضادة من العدو الصهيوني كادت تؤثر على النصر؛ وهي المسرحية نفسها “المُمصرة” أو المأخوذة أو المقتبسة -على أحسن ألفاظ التعبير- عن الفيلم الأمريكي وقيل الفرنسي “إلى المعلم مع الحب”؛ والعنوان الساخر الأخير يخفي أسفله سلسلة مريرة من مئات التراكيب اللفظية التي ساهمت في إبعاد آلاف التلاميذ عن الالتزام والأخلاق الحميدة في قاعات الدراسة على مدار الوطن العربي؛ ولما سُئلَ الراحل علي سالم كاتب سيناريو المسرحية عن ذلك في أحد معارض الكتاب بداية التسعينيات من العام الماضي قال بسخرية عارمة: “إذا كانت “المشاغبون” أفسدت أجيالًا من الشباب فلماذا لا تنتجوا أنتم -كمعترضين عليها- 10 مسرحيات تعيد إنجاحهم وأخلاقهم؟”، ولم يغب عن بال الراحل سالم إذ يتلقى ضحكات العشرات من المعجبين بفنه في القاعة الرئيسة من المعرض التي كانت تحتفي به في عهد الرئيس الأسبق الراحل المخلوع حسني مبارك أن الهدم دائمًا أكثر سرعة ونفاذًا ومضاءً وإنفاذًا من البناء، وأيضًا أن لدينا –كمصلحين- تقصيرًا وإقلالًا بل ثغرة هائلة في الأعمال الدرامية الهادفة بشقيها الكوميدي والتراجيدي؛ حتى إن عالمًا من مثل د. إبراهيم أبو محمد، مفتي عام القارة الأسترالية الحالي، يرى في إحدى محاضراته في شهر رمضان الماضي، أن إحدى أهم إشكاليات انتشار الفساد والإفساد بين المسلمين في العالم الإسلامي والغربي أن جيله -أطال الله في عمره- تربى على قال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم، فيما تربى غيره وما تلاه من الأجيال على مسرحيات وأفلام وأقوال عادل إمام؛ ولعل الشيخ الراحل عبدالحميد كشك كان يريد التعبير عن معنى الإصلاح المشتهى وحاجز نفس الممثل لما أطلق مقولته ذات يوم لتنازع جماهيرية نفس الممثل في وقتها إذ قال يرحمه الله: “دعونا الله أن يرزقنا بإمام عادل فشاء تعالى أن يختبرنا في هذه الفترة المريرة أكثر لما رزقنا بعادل إمام”!