في 8/ 4/ 2009م، توفي المفكر الإسلامي د. توفيق الشاوي رحمه الله، بعد رحلة طويلة في خدمة الإسلام والمسلمين، وبهذه المناسبة تعيد “المجتمع” نشر حوار له اختص به المجلـة، وتم نشره في العدد (1243) بتاريخ 25/ 3/ 1997م، يتحدث فيه عن التحديات التي تعيشها الأمة الإسلامية، ودور المثقفين والعلمـاء والأجيال الصاعـدة، وفشل الشيوعية والماركسية في علاج الأوضاع الاجتماعية الظالمة، بينما يقدم الإسلام علاجاً متوازناً لكل الأوضاع الإنسانية وقد حاوره د. محمد الغمقي.
د. توفيق الشاوي، الأستاذ السابق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة وكلية الاقتصاد والإدارة بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة، من الرجال القلائل الذي جمعوا بين غزارة الإنتاج الفكري والديناميكية العملية على أرض الواقع كما أثبتته التجربة الميدانية من خلال إشرافه على مشروع مدرسة المنارات للتعليم الخاص بجدة على مدى ربع قرن إلى جانب سعة علاقاته مع شخصيات فكرية وسياسية مستقلة وحاكمة تنتمي إلى العالمين الإسلامي والغربي والمذكرات الطويلة للدكتور الشاوي التي نشرتها “المجتمع” بعنوان «صفحات من دفتر الذكريات» لدليل على ديناميكية هذا الرجل القانوني والمفكر الإسلامي.
وفي هذا اللقاء، يتحدث د. الشاوي عن التحديات التي تعيشها الأمة الإسلامية، وعن مهام المثقفين والعلماء والأجيال الصاعدة في الحفاظ على الهوية والاستقلال، وعن العلاقة مع الغرب وآفاق المشروع الإسلامي، وإليكم نص الحوار:
تعيش الأمة الإسلامية تحديات كبرى آخرها شعار «الشرق أوسطية» ما هي في نظركم أهم الآثار السلبية على كيان الأمة لمثل هذا الشعار وكيف يمكن رفع هذا التحدي؟
– سبق أن أصدرت كتاباً بعنوان «الشرق الأوسط والأمة الوسط» وبينت فيه أن ما يقال عن الشرق الأوسط إنما يقصد به إعطاء “إسرائيل” الاعتراف بوجودها في هذه المنطقة التي نعتبرها إسلامية وعربية محضة، وبالتالي فإن وجود دولة “إسرائيل” في الوقت الحاضر وضع استعماري مفروض بالقوة لا يتفق مع سيادة الأمة العربية الإسلامية على فلسطين وعلى المنطقة كلها ولا بد أن يزول.
وإذا كانت هناك جهات أجنبية تفرض على بعض الحكومات المشاركة مع “إسرائيل” فيما يسمى المؤتمرات الاقتصادية تحت شعار «الشرق الأوسط» فإن الإسلاميين والوطنيين لا يجوز لهم أن يقبلوا هذا الوضع أو يشاركوا فيه، لأن شعوبنا ترفضه ولها الكلمة الأخيرة وهي صاحبة السيادة.
إن المقصود من هذه المؤتمرات ومن هذا الشعار ليس فقط الاعتراف بوجود “إسرائيل” ومشاركتها في شؤون المنطقة العربية، بل الأخطر من ذلك أنهم يريدون فرض هيمنتها على اقتصاديات العالم العربي وسياسته، ولذلك فإننا نحذر كل من يتكلم عن الشرق الأوسط بأن السير في هذا الاتجاه دون موافقة شعوبنا يعتبر تفريطا في حقوق الأمة العربية الإسلامية وهي التي وصفها القرآن بأنها الأمة الوسط، فشعارنا هو سيادة الأمة الوسط، ووحدتها.
وخطورة الاعتراف بـ”إسرائيل” الآن أنه مفروض علينا من قوى أجنبية تعتبر نجاحها في فرض الاعتراف بـ”إسرائيل” على الدول العربية مبررا للتمادي في سياسة فرض إرادتها على العرب والمسلمين لمصالحها الاستعمارية، وهي التي تسلح “إسرائيل” وتعترف لها بامتيازات تختص بها وأولها أن تحتفظ بقوتها النووية وأن تمنع العرب الحصول على أي سلاح متطور وتواصل خطتها في بذر بذور الشقاق لتمزيق الأمة العربية والشعوب الإسلامية كلها وإضعافها حتى تكون “إسرائيل” أقوى من الدول العربية كلها مجتمعة لتخدم بذلك مصالح القوى الأجنبية التي لها مطامع في السيطرة على هذه المنطقة، وما الصهيونية و”إسرائيل” إلا وسيلة لذلك، (ويرجى مراجعة ما نشرته في مجلة “المجتمع” بشأن هذا الموضوع العدد رقم (1088) بتاريخ 5 رمضان 1414هـ/ 15/ 2/ 1994م).
العدالة الاجتماعية، والتوازن الاقتصادي من المقومات الرئيسة «للأمة الوسط» كما أشرتم في كتابكم «الشرق الأوسط والأمة الوسط» هل يعني ذلك أن البعد الاجتماعي والاقتصادي هو من الأولويات في عملية الإصلاح الشاملة للأوضاع الحالية للأمة الإسلامية، وهل يتقدم الإصلاح الاجتماعي على التغيير السياسي والثقافي؟
– أنا لا أتكلم عن إصلاح عيوب وإنما أتكلم عن مبادئ إسلامية ملزمة لنا كأفراد وشعوب أولها تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية، وهو مبدأ لا يجوز تأخيره عن أي مبدأ آخر من مبادئ الإسلام، بل هو جزء من صميم ما تسميه التغيير السياسي والثقافي أو الإصلاح السياسي الذي يفرضه الإسلام ليكون الضمانة لتقدم هذه الأمة والإنسانية جمعاء.
إن الشعوب الأوروبية قد ابتدعت الشيوعية والماركسية لمعالجة الأوضاع الاجتماعية الظالمة وقد فشلت هذه النظريات وانهارت الكتلة الاشتراكية، والإسلام وحده هو الذي يستطيع سد الفراغ الناتج عن ذلك، ويقدم للإنسانية علاجاً متوازنا للأوضاع الاقتصادية التي تستغلها الإمبريالية العالمية حاليا لاستبعاد الشعوب واستغلالها. شخصية الأمة مسؤولية الأجيال
ما الشروط الضامنة للتكامل بين مهمة الجيل الأول للأمة المتمثلة في تحرير الأرض والاستقلال السياسي وبين مهمة الجيل الصاعد المطالب بالحفاظ والدفاع عن شخصية الأمة ومقوماتها واستقلالها الفكري والأيديولوجي؟
– لا يوجد تفرقة بين مهمة الأجيال المتتابعة فكلها تدافع عن شخصية الأمة ومقوماتها واستقلالها الفكري والسياسي والاقتصادي، ومقاومة كل تهديد للقيم المكونة لشخصية الأمة سواء كان التهديد عن طريق الاحتلال الأجنبي والسيطرة الاستعمارية بالصورة التقليدية التي قاومها جيل الكفاح الوطني أو كان ذلك بالصورة التي نواجهها الآن وتقوم على الهيمنة الاقتصادية والثقافية بل والسيطرة السياسية التي تتم الآن بواسطة ما يسمى بالنظام العالمي الذي تسيطر عليه القوى الأجنبية والذي يتولى إصدار قرارات لمحاصرة شعوبنا ومقاطعتها بقصد إذلالها وإضعافها عسكريا واقتصاديا لمصالح “إسرائيل” ومَن وراءها من ذوي المطامع في بترولنا وثروات شعوبنا.
كان دور العلماء والمثقفين وسيظل هو الفاعل في عملية التغيير في كل مجتمع وفي كل دورة حضارية، ما موقع المثقفين والعلماء في الأمة الإسلامية في تاريخها الحاضر وما الدور المطلوب في المستقبل؟
– كلمة العلماء وكلمة المثقفين تحتاج إلى تحديد: بعض الناس يعتبر كلمة العلماء خاصة بدارسي الفقه وعلمائه، ولكن الجميع يعرف الآن أن كلمة العلماء تشمل جميع المتخصصين في فروع العلم المختلفة بما في ذلك العلوم الطبيعية والرياضية والاقتصادية والعسكرية، ومن واجبنا أن نوضح أن كلمة العلماء يقصد بها المعنى الواسع الشامل لجميع أصحاب التخصصات، وهم المثقفون الحقيقيون.
أما اصطلاح المثقفين، فإن البعض يحاول الآن أن يقصره على الطبقات التي تكونت في المدارس العصرية والمتأثرين بالثقافات الأجنبية والمستوردة دون غيرهم، وهذا التعريف غير صحيح لأنه يشمل كل أصحاب التخصصات اللازمة لنهضة المجتمع، وأول المثقفين هم أساتذة الفقه والشريعة واللغة العربية والعلوم جميعها ولا يمكن تجاهل دور أي طائفة من العلماء في توجيه الأمة وبناء حضارتها ونهضتها وثقافتها.
كما أننا نحذر البعض من المغالاة في دور العلماء والمثقفين «بأي معنى أخذناه» بقصد إهمال دور العامة والجماهير التي يجب أن يكون لها الدور الأول في التمييز بين من يمثلون ذاتية الأمة وآمالها ومن يعملون لحساب الحكام المستبدين أو القوى الأجنبية الطامعة، سواء كانوا ممن يسمون فقهاء السلاطين من علماء الفقه الذين يعملون لحساب أصحاب السلطة أيا كانوا، أو كانوا ممن يعملون لحساب القوى الأجنبية في الإعلام والسياسة والثقافة، وتحاول القوى الاستعمارية تمكينهم من البقاء في مراكز السلطة ليقوموا مقام الجيوش التي انسحبت، وأصبحت القوى الأجنبية تعتمد الآن على جيش من عملائها المتأثرين بالثقافة المستوردة والذين يمسكون بزمام الصحافة والإعلام، بل والسياسة والسلطة في كثير من البلاد بحجة أنهم هم الصفوة التي تمارس فرض الوصاية الاستبدادية على الشعوب وهي وصاية كانت تمارسها الجيوش الأجنبية، ويريدون بهذه الوصاية إخراج شعوبنا من عقيدتها وتاريخها وشخصيتها التاريخية التي قوامها الإسلام والعروبة.
سعياً إلى الخروج من فكرة الصراع بين الإسلام والغرب، يدعو البعض إلى إقامة جبهة عالمية دينية على أساس وحدة المؤمنين بغض النظر عن دينهم للتصدي للجبهة العلمانية المعادية للدين والقائمة على الظلم وتكريس تبعية الجنوب للشمال، ما رأيكم في ذلك؟
– ما يسمى بالصراع بين الإسلام والغرب هو في الحقيقة صراع بين شعوب الإسلام الناهضة وبين القوى الأجنبية التي احتلت بلادنا فترة طويلة، والآن تحاول إبقاء سيطرتها عليها بواسطة حكام يفرضون سلطتهم بدون موافقة شعوبهم أو رضائها ويتولون تنفيذ المخططات الأجنبية مقابل ما يحصلون عليه من مساعدات مالية أو عسكرية في صورة قروض ودعم إعلامي وسياسي يشجعهم على مواصلة اضطهاد القوى الإسلامية التي تخشاها الإمبريالية الأجنبية وتفرض على بعض الحكومات استئصال كل ما يمثل الصحوة الإسلامية.
والذين يدعون إلى تكوين جبهة المتدينين ضد عوامل الإلحاد والفساد والبغي هم بعض المسيحيين الذين يرون مخاطر انتشار أسباب الفساد في المجتمعات المتقدمة التي يأكل الترف نسيجها ويهددها بالانهيار، وقد لاحظنا أن بعض المسيحيين الآن يرون أنهم يجب أن يستعينوا بالمسلمين لإنقاذ مجتمعات الدول الكبرى من الاتجاه إلى الانحلال الأخلاقي والفساد الاجتماعي، ولا نرى مانعا من التعاون معهم في هذه المهمة وأن يكون هذا التعاون مشروطا بتأييد حركات التحرر التي تمثل الشعوب الإسلامية في كثير من أقطارها وليس وسيلة لصرفها عن طريق مقاومة المخططات الاستعمارية والصهيونية، ولذلك فإن هذا التعاون يجب أن يكون على أساس حق شعوبنا وأفرادنا في مقاومة السيطرة الأجنبية والاستغلال الإمبريالي لشعوبنا طبقاً لمبدأ جهاد المعتدين على أوطاننا، وهو مبدأ شرعي لا يجوز إنكاره ولا التعاون مع من ينكرونه بحجة التعاون مع دعاة الأديان الأخرى، لأن الأديان شيء والسياسة العدوانية التي تسير عليها الدول الكبرى والصهيونية شيء آخر.
ما آفاق المشروع الإسلامي في ظل القطبية الأحادية للنظام الدولي الجديد؟
– مسألة القطبية الأحادية التي تشير إليها يقصد بها السيطرة الأمريكية والغربية على النظام العالمي الجديد بعد انتهاء الحرب الباردة وتدهور الاتحاد السوفييتي.
وهذا النظام الجديد يحتاج إلى تغيير وإصلاح ولا يمكن أن نوافق على ما يدعيه البعض بأنه نهاية التاريخ، لأن التاريخ لا يمكن أن يقف، وسنّة الكون تقضي بالتغيير وبأن الدول الغنية المترفة يأكلها الترف والفساد وأن المستقبل لابد أن يكون للدول الفقيرة الناشئة، وبلادنا والحمد لله هي من هذا النوع وهذا ليس عيبا، ويجب أن نعترف به ويجب أن نعتبره دليلا على أن المستقبل لنا ولغيرنا من الشعوب الناشئة، لأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يخص شعوبا بالسيطرة إلى الأبد سواء كانت شعوبا شرقية أو غربية.
يريد الغربيون أن تكون سيطرتهم للأبد ويخشون من وجود بديل لهذه الإمبراطوريات الباغية ذات الحضارة المادية والإلحادية وهم يخشون أن يكون الإسلام هو البديل الوحيد لها ولذلك يحاربونه ويحاصرونه، ونحن نقاوم ذلك وليس هدفنا من المقاومة أن نحاربهم ونقضي عليهم فهم أقوى منا ولكن هدفنا أن نحتفظ بذاتيتنا وشخصيتنا وندافع عنها ضد عوامل الفساد التي يريدون تصديرها إلى بلادنا لنغرق معهم، فكل ما نريده أن يحتفظوا بالانحلال والفساد لأنفسهم وألا يفرضوا علينا، وإذا كانت حضارتهم تهدد شعوبهم بالانهيار فإن هذا خطؤهم وليس خطأنا وهم المسؤولون عنه ولسنا المسؤولين عنه. والشراسة التي يحاولون بها محاربة الإسلام تدل عـلى أنهم فـعـلا يشعـرون بأن سيطرتهم آيلة إلى الزوال ويريدون أن يقضوا علينا نحـن قبل أن يقضي الفساد عليهم.
وقد ينجحون في القضاء على بعض النظم الحاكمة ولكن ضمير الأمة وأسس شخصيتها وقيمنا الإسلامية باقية وصامدة، وهي التي ستمكننا من البقاء والانتصار على عوامل الفساد التي يريدون أن يفرضوها علينا؛ ولذلك فإن أول هدف للتيار الإسلامي هو مقاومة الفساد الذي تريد القوى الأجنبية نشره في بلادنا بدلا من أن يقاوموه في بلادهم ويطهروا مجتمعاتهم منه، ومن المؤكد أن هناك عناصر مخلصة في داخل هذه المجتمعات تحاول إصلاحها وبعضهم يعلن اعتناقه الإسلام وهؤلاء جميعاً يجب أن نتعاون معهم ونعاونهم في مقاومة الفساد في بلادهم ومنعه أن يتسرب إلى شعوبنا وبلادنا.