– لماذا يرث الابن ضعف ما ترثه الابنة؟
– هذا هو شرع الله.
– ولماذا شرع الله أن يرث الابن ضعف ما ترثه الابنة؟
– لأن الرجل هو الذي ينفق على البيت.
– أنت أيضاً يا أمي تعملين وتنفقين على البيت مثل أبي؛ فلماذا ترثين نصف ما يرث؟
كان هذا حواراً منقولاً حرفياً بين ميرنا (18 عاماً) ووالدتها التي هاجرت منذ نحو ثماني سنوات للولايات المتحدة حيث تسكن الأسرة في نيويورك.
لم يكن هذا هو الحوار الأول الذي تشعر فيه الأم بوطأة التحدي الثقافي الذي تعيشه مع أسرتها التي أحاطتها بكثير من سبل الحماية، ولكنها لم تستطع إدخال الأبناء مدارس إسلامية لارتفاع مصروفاتها من جهة، ولبعدها المكاني عن محل إقامتهم، لم تجد الأم –مثل كل مرة- إلا البحث عبر الشبكة العنكبوتية علها تجد بعض الإجابات المقنعة التي تناسب عقلية ابنتها.
على أن هذه النوعية من الأسئلة ليست التحدي الوحيد الذي واجهته أسرتها؛ فوالدة ميرنا دعاء ذات الأصول العربية والتدين الفطري كان هاجسها الأكبر منذ أن وطأت أرض الولايات المتحدة ألا يذوب أولادها الأربعة في زخم ذلك المجتمع وقيمه التي تتعارض مع تعاليم ديننا؛ لذلك حرصت على صنع ما يشبه جدار حماية أو على وجه الدقة جدار عزل، ووافقها زوجها على هذا القرار، وبالتالي فليس لها أو لأولادها أصدقاء مقربون؛ بل مجرد زملاء عمل أو دراسة، ولا خروج في أيام العطلات حيث تقضي الأسرة وقتها برفقة بعضها بعضاً في مشاهدة الأفلام الطويلة والتواصل مع الأقارب في الوطن الأم وبعض الأقارب الآخرين المقيمين في نيويورك، وصناعة طعام منزلي، ثم يقضي الأولاد باقي الوقت في الألعاب الإلكترونية.
لكن بمرور السنوات، اكتشفت دعاء أن أسرتها وأولادها منعزلون للغاية، خاصة أنه لا توجد جالية عربية في الجوار، ولكي تذهب بأسرتها للمسجد فعليها قضاء وقت طويل في المواصلات؛ لأن المسجد الموجود بالقرب منها هو للجالية البنجالية، وتُشرح فيه علوم الدين باللغة البنجالية لا بالعربية ولا حتى بالإنجليزية.
تحدي الزواج
هذه الأسرة المسلمة المنعزلة في ضجيج نيويورك هاجس والدها الأكبر كيف سيتزوج الأبناء وقد بلغ أكبرهم الثانية والعشرين من عمره؟ وهل من الأفضل أن يتزوج فتاة من بلده الأصلي؟ وكيف يحدث ذلك والابن يرفض حتى النزول لزيارة أقاربه هناك؟ وماذا عن البنات؟ كيف سيتزوجن؟ فابنة أخيه الأكبر -الذي ساعده على إتمام أمور الهجرة- التي بلغت الثلاثين لم تتزوج بعد لأن لديها هاجساً أن من يريد الزواج منها يريد الحصول على الجنسية الأمريكية.
تتفق سمر ذات الأصول العربية التي تعيش في نيوجرسي منذ أكثر من 20 عاماً مع والد ميرنا أن زواج الأبناء من أكثر الصعوبات التي تواجه الأسرة المسلمة في الولايات المتحدة؛ فعلى الرغم من أن سمر تعيش وسط جالية مسلمة وعربية كبيرة، ويقوم المسجد بدور فعال ومؤثر تشترك هي نفسها في تدريس الأطفال اللغة العربية وبعض العلوم الإسلامية يوم الأحد، لكن نشاطها متوقف منذ جائحة «كورونا»، وعلى الرغم من أن ابنتها تزوجت بشاب مسلم من نفس جنسيتها، فإن ابنتها هي الوحيدة بين بنات صديقاتها ممن تزوجت هكذا، فالأخريات تزوجن برجال أمريكيين قام أغلبيتهم الساحقة بإشهار إسلامهم دون الحد الأدنى من المعرفة بالإسلام ولم تستطع الجالية أن تنظم فعاليات كافية لتعريفهم بالدين.
التحدي الأكبر تفلُّت الأبناء من القيم الدينية بسن المراهقة حيث يفقد بعض الآباء السيطرة عليهم
أما التحدي الأكبر من وجهة نظر سمر فهو تفلُّت الأبناء من القيم الدينية في سن المراهقة؛ حيث يفقد كثير من الآباء المسلمين السيطرة على الأبناء في هذه السن؛ فابنها منذ وصوله لسن الرابعة عشرة توقف عن حفظ القرآن حيث كانت تقوم بتحفيظه قصار السور (الجزء الثلاثون)، وعليها أن تذكره طيلة الوقت بالصلاة لأنه لا يصلي ما لم تذكره، وفي كثير من الأحيان ينظر لها بكثير من الضجر عند هذا التذكير.
أما إنجيلينا –صاحبة ابنتي (18 عاماً)- الفتاة ذات الأصول الباكستانية، التي ولدت على الأراضي الأمريكية وتعيش في العاصمة واشنطن، فتمثل الهوية لها تحدياً حقيقياً مع عائلتها المحافظة؛ فوالدتها كانت تعمل محفظة للقرآن الكريم في باكستان، لكن إنجيلينا لا تحفظ إلا قصار السور مع صعوبة شديدة في مخارج الحروف، ولها أختان أكبر منها في العمر متزوجتان من رجلين من أصول باكستانية وملتزمتان بالحجاب الشرعي ويقطنان بالقرب من عائلتها.
دخلت إنجيلينا في نقاشات عنيفة مع الأختين خاصة الكبيرة منهما عن الحجاب ووضع المرأة في الإسلام والحريات، وكانت نقاشات تصادمية تنتهي بوصفها بالفسوق وربما الكفر، ووصل الأمر بإنجيلينا إلى أن كانت على حافة الإلحاد فعلياً عندما تعرفت في هذه الأثناء على بعض المسلمين التابعين لفكر أمينة ودود، ولاقى ذلك هوى في نفسها حيث ترى أنها من أتباع النسوية الإسلامية، فهي ترفض الحجاب وكثيراً من القيم والمفاهيم الأساسية للأسرة المسلمة، لكنها تصلي بانتظام وتصوم ليس عن تقليد، لكن عن إيمان، وتسأل عن تفاصيل دقيقة متعلقة بهاتين العبادتين، ومع استمرار التشاحن داخل أسرتها قررت تغيير اسمها ولقبها، بل إنها تفكر جدياً في العيش بصورة مستقلة لولا بعض المشكلات المادية التي تواجهها.
تشعر إنجيلينا بالشغف لتعرف أكثر عن الإسلام والمسلمين بعيداً عن أسرتها؛ فقد طلبت من ابنتي تصوير إفطارنا في أول أيام شهر رمضان العام الماضي، فهي ستفطر وحدها في حجرتها، وسيكون طعامها عبارة عن بيتزا وزجاجة من المياه الغازية.
في رأيي أن إنجيلينا تمثل نموذجاً شديد الوضوح لتحدي الهوية الذي تعيشه الأسرة المسلمة وأبناؤها في الولايات المتحدة الأمريكية؛ فالفتاة لديها إيمان كبير بالقيم الأمريكية ومتفاعلة للغاية مع منظمات المجتمع المدني الحقوقية هناك، وفي الوقت ذاته لديها حب فطري للإسلام ولنبيه صلى الله عليه وسلم وإيمان مطلق بالله الواحد مع بعض الإشكاليات الفكرية المتعلقة ببعض التشريعات خاصة تلك المتعلقة بالمرأة والأسرة، زادتها أسرتها المحافظة التي لا تمتلك مهارات الحوار الفعال حدة وعمقاً.
رغم أن الاضطهاد بسبب الدين بأمريكا أقل من أوروبا فإنه أحد أهم التحديات التي تواجهها الأسرة هناك
الإسلاموفوبيا
لا يمكننا إغفال بعض صور الاضطهاد التي تعانيها الأسر المسلمة في الولايات المتحدة، فعلى الرغم من أن الاضطهاد بسبب الدين هو بوجه عام أقل من أوروبا، فإنه لا يزال يمثل واحداً من أهم التحديات التي تواجهها الأسرة هناك؛ فدعاء المحجبة التي حكت لنا جزءاً مما عانته هناك لا تنسى يوم 11 سبتمبر 2001م، حيث يبتسم لها أحدهم بسماجة ويشير لحجابها قائلاً: «طبعاً تعرفين جريمتكم التي اقترفتموها في مثل هذا اليوم»!
وقد عانى زوجها فصلاً تعسفياً من عمله من رئيسه اليهودي الصهيوني المتطرف ما أن عرف بجنسيته الأصلية على الرغم من أنه دافع أمامه عن اتفاقيات السلام.
أما داليدا ابنة سمر تلك الفتاة الاجتماعية المنفتحة على المجتمع الأمريكي؛ فكان يحزنها ويؤثر في نفسيتها ذلك الرفض من أمهات صديقاتها عندما يعلمن أنها مسلمة، حتى إنهن تقبلن لون بشرتها ببساطة، ولكنهن لم يتقبلن ديانتها، وقد أثر ذلك على تباعد بعض الصديقات الأمريكيات عنها مما دفعها للعزلة النفسية، المؤلم حقاً أنها عندما زارت بلدها الأم زيارة طويلة لم تشعر أيضاً بالانتماء بل شعرت بالغربة.
لو أضفنا لذلك كله أن الأسرة المسلمة في أمريكا هي جزء من المجتمع تعاني من مشكلاته العامة كأزمات البطالة في ظلال جائحة «كورونا» ومشكلات التحرش والتنمر في المدارس الثانوية، وعزوف الشباب عن الزواج وارتفاع معدلات الطلاق وضعف الروابط المجتمعية لأدركنا حجم التحديات التي تواجهها الأسرة المسلمة هناك.
كما أن هناك علاقة جدلية التأثير بين الأسرة المسلمة ذات الهوية الدينية المحددة وذات الأصل العرقي والثقافي والتعليمي المختلف وبين المجتمع الأمريكي بقيمه وثقافته وهيمنته على نواحي الحياة، وربما يمثل الجيل الثاني مشكلات وتحديات أشد على الرغم من أنه أتيح له فرص تعليم وعمل أفضل بكثير من الجيل الأول، وفي ضوء قدرة هذا الجيل الثاني تحديداً على حل هذه التحديات العالقة يمكن أن نستلهم صورة الجيل الثالث ونستلهم معها مستقبل الأسرة المسلمة في أمريكا.