د. هاني محمود الأزهري، أكاديمي مصري بارز، وهو أستاذ بقسم الشريعة الإسلامية في كلية الحقوق بجامعة عين شمس بمصر، ومحاضر بمؤسسة «شيخ العمود» ذات الصيت الواسع في التعليم بمصر، وعمل في فترات سابقة في وزارة الأوقاف ودار الإفتاء المصريتين، كما قام بتدريس الفقه الإسلامي بالجامع الأزهر الشريف، وله إطلالات متجددة في الصحف الرسمية بمصر.
صاحب ثقافة موسوعية تعتمد الإسلام كمنهج حضاري، حصل على الدكتوراه في أصول الفقه بعنوان «رسالة الإمام الشافعي في المنظور الاستشراقي»، بتقدير ممتاز، والماجستير في علم «أصول الفقه» بتقدير ممتاز بإجماع الآراء، وهو ابن بار لجامعة الأزهر التي تخرج فيها بكلية الشريعة والقانون، ومدافع قوي عن الجامع الأزهر الشريف في وجه الحملات الشرسة الموجهة ضده في السنوات الأخيرة.
له العديد من الاجتهادات والمحاضرات المؤثرة في دعم المنظور الحضاري للإسلام ورعاية التعددية والتنوع، والمواطنة والتعايش، وفقه الأولويات في مقاومة الأوبئة، ونقد فلسفة ما بعد الحداثة، ونقد الاستشراق بين التاريخ والواقع، تجديد فقه السياسة الشرعية، وقراءات في تجديد المشروع الحضاري في الفكر الحضاري.
وفي ظلال هذه الثقافة الموسوعية الحضارية، كان لـ»المجتمع» هذا الحوار معه، قراءة منهجية شهر رمضان في التغيير والإنقاذ في ظل جائحة «كورونا»، ووجود آلام متزايدة للمسلمين في الشرق والغرب، وكان رسالته الأهم في هذا الحوار أن رمضان قادر على الإنقاذ بما يمتلكه من منهجية حضارية شاملة وفلسفة إيجابية لإدارة شؤون الحياة.
بدأنا من حيث المعنى الحضاري المقصود إسلامياً في شهر الصيام.. ما هو؟!
– أجاب د. هاني قائلاً: لم يصنع الله عز وجل أي شيء عبثاً، وقد تجلت حكم كثيرة في الصيام وشهر رمضان، من أبرزها منهجية «لعلكم تتقون» التي وردت في الكتاب الكريم عند الحديث عن الصيام وشهر رمضان، فهي حكمة سامية وقيمة عليا أن يحصل المسلم من الصوم على التقوى التي تفتح بعد ذلك كل أبواب التغيير والإحسان.
كما يمكن قراءة حكمة الصبر في شهر الصبر الذي يعود المسلم على فقد النعم بطريقة اختيارية حضارية، تنقل المسلم إلى مستوى آخر من السمو والنبل، وهو مستوى تتسارع الجهود البشرية لإحداثه بطرق أخرى دون بلوغ مرتبة الصيام في الإسلام، وهو ما أشار إليه العالم الجليل الراحل الإمام محمد عبده في تفسيره “المنار” عندما تحدث عن الصيام كتدريب وليس كتكدير، ودعا إلى تجربة هذا المعنى الحضاري مع النفس التي ترى في الجوع الاختياري فضيلة تكسبها فضائل أخرى.
في هذا الإطار، هل يمكن لرمضان أن يكون مفتاح قلوب للغرب في ظل انتشار “الإسلاموفوبيا” ورسم صور ذهنية سلبية عن الإسلام؟!
– بالطبع، يمكن ذلك إذا أحسنا عرض الإسلام في رمضان بشكل حضاري مناسب للغرب، فنحن نمتلك كمسلمين ديناً حضارياً إنسانياً تربوياً غنياً بالقيم التي يحتاجها الغرب بشدة، ومن المفيد هنا أن نوجه للغربيين خطاب المنافع الاجتماعية ينطلق من معاني الإحسان الاجتماعي تحديداً الذي يظلل مظاهر الشهر الكريم وربطه بالخالق عز وجل، فإفطار الصائم يختلف عن إخراج الزكاة؛ لأنه لا يشترط الفقر للاستحقاق، وهو ما يستحضر بكل تأكيد معنى التكافل.
والأجمل في هذا الإطار هو الشعور الجماعي والحالة الجماعية التي تحوط قيم هذا الشهر، وهو ما يحتاجه الغرب، فضلاً عن أن المعنى الجماعي يهون الأمر ويحفز الجميع على العمل الإيجابي، وهو أمر حضاري يفيد قوماً لا يعرفون عن الإسلام إلا “داعش” أو الجماعات التي تنتهج العنف أو تحرض عليه.
وبالتالي، إن المدخل الشعائري القيمي التراحمي الذي يربط الصوم وشهر رمضان بالتغيير وإحداث فارق إيجابي إنساني بالمعيار الحديث هو مدخل مهم لجذب غير المسلمين لهذا الدين من جديد، وهناك جاذبية ما زالت موجودة فيه بشهادة بعض المستشرقين، ومنها ما جاء في كتاب “جاذبية الإسلام” من تأليف “مكسيم رودنسون”.
هذا عن الغرب، ماذا يقدم رمضان في منهجيته الحضارية للمسلمين في الشرق الذي يرى مراقبون أنه يعاني بشدة في ظل موجات اقتصادية واجتماعية سلبية تؤثر على الاستحقاقات الإيمانية؟
– الشرق يعاني من نفس الأزمات التي يعاني منها الغرب، ولكن الأمر بالنسبة له يحتاج إلى إزالة الأتربة من على جوهر الدين حتى تستقيم الأمور.
إن المسلمين في المشرق العربي يحتاجون إلى فهم مقاصد الشرع من الصيام وتوجيهاته التراحمية الحضارية كالتكافل والتراحم والإحسان لمواجهة التغول المادي العلماني الجارف تحت وطأة الإشكاليات التي تراكمت في السنوات الأخيرة، وأدت إلى تجفيف منابع التجديد الديني، وتعطيل إيصال مفاهيمه إلى الأجيال الشابة على وجه التحديد.
وكلما اقترب المسلمون من الإسلام في رمضان؛ اقتربوا من حل مشكلاتهم في مناخ إيجابي يحكمه العفو والغفران والإحسان والرحمات.
وحقيقة، فإن المسلمين لم يعوا جماليات الصيام بعد، ومقاصده الاقتصادية كمقصد “التقلل”؛ وهو معني بتقليل احتياجات بغرض زيادة المنافع الروحية والتكافلية وكيفية الاستغناء الاختياري عن بعض الموارد بشكل جزئي من أجل قيم أعلى وأهداف أسمى.
وهنا أدقُّ جرس إنذار كبيراً من نسيان الأسر المتعففة التي لا تطلب إحساناً في ظل أزمات أطاحت باستقرارها الاجتماعي والاقتصادي مقابل انشغال البعض بالإغداق على طالبي الصدقات، فأنا أرى في ظل جائحة “كورونا” أن نبحث عن هؤلاء الأسر ونقدم لهم يد العون من باب فقه الأولويات.
بذكر “كورونا”، برأيك.. ماذا يقدمه رمضان للمسلمين من معانٍ ومقاصد لمواجهة الجائحة؟!
– من الناحية الفقهية، ثبت يقيناً أنه لا يترتب على الصيام تحت وطأة الجائحة ضرر محقق، وهو ما أقرته منظمة الصحة العالمية، وبالتالي الجدل حول هذه المسألة في حكم العدم، ولكن إذا لا قدر الله أصيب مسلم بالوباء فقد أعطته الشريعة حق الإفطار كونه مريضاً.
ومن الناحية المقاصدية، فإن الشهر فرصة للتقرب من الله عز وجل أكبر، فقد أرانا آياته وقهر أقوى القوى العالمية بفيروس صغير ليعيد للبشرية بوصلتها من جديد نحو دفة القدرة الإلهية، ورغم أني لست من المؤمنين بنظرية العقاب الإلهي بالمعنى الرائج لها، فإني في الوقت ذاته أرى أن الوباء رسالة لكل ذي عقل أن أطرق باب الحق ولا تتوغل في البطش والغرور بالقوة وتنسى أن للكون إلهاً.
ومن عجيب ما رصدت من رحمات الله أن الوباء لم يطح بمخيمات اللاجئين ولا دول المجاعات، ولكنه ضرب الدول العظمى، وكأنها رسالة للمستضعفين وأخرى للمتكبرين تقول: “للكون رب”، والجميل في هذا الإطار رغم المأساة الإنسانية التي نقدرها بالطبع أن فلسفات غربية بدأت تدق أبواب التفكر في الدين ومناقشة فكرة الألوهية والربوبية، وهو ما يقول: إنه رغم المحن يوجد منح.
كل شيء في الحديث يقودنا إلى وجود دعاة يفهمون هذه المعاني الحضارية لنشرها، ألا ترى أن هناك أزمة في ذلك حتى إن مراقبين يرون أن مؤسسة بحجم الأزهر باتت تحت القصف العلماني بسبب تمسكها بالشريعة والدفاع عن الثوابت؟
– فعلاً، المشهد صعب للغاية، والمسؤولية كبيرة سواء على الأزهر أو غيره من الدعاة المستنيرين، فالمساحات تغيرت؛ وهو ما يعزز أهمية الكلمة عند كل مسلم في هذا الوقت، وأن يكون هو خير معبر عن دينه تحت شعار «بلّغوا عني ولو آية».
والأزمة أنه في ظل إغلاقات “كورونا” تأثرت الأجيال بغياب المساجد والوعظ والتذكير بالله تعالى والحقوق، وتوقفت المنابر؛ ما أدى إلى توغل المادية بشكل بشع وجنوح الشباب خاصة إلى مادية تحمل في طياتها نذر خطر.
لذلك، أدعو الجميع لاستغلال شهر رمضان في التوعية الدينية خاصة لدى الشباب والمراهقين منهم خاصة، حتى يتعرفوا على “ألف باء” دين من قيم وعقيدة ومعاملات، فالدين بات غريباً؛ وهو ما يتطلب جهوداً أكبر.
وهنا أرى أن مصلحة الدين تتطلب الوقوف مع مؤسسة الأزهر والإمام الأكبر د. أحمد الطيب، حتى وإن اختلف البعض مع بعض المواقف، لأنه بات صمام الأمان للشريعة ومقاصد الإسلام، وما يحدث، على سبيل المثال في مصر، في مناقشات قانون الأحوال الشخصية وما زال من حرص الأزهر على الشرع ومهاجمة البعض الشرس له أمر جدير بالتأمل من أجل تضافر الجهود في دعمه منهجيته، بل إني أقول: إن دعم الأزهر في هذا الوقت واجب على كل مسلم سواء كان متفقاً مع شيخه أم لا، فهو المؤسسة الوحيدة القادرة على التحرك واتخاذ موقف من داخل الأطر الرسمية للدفاع عن الثوابت.