تحتل الأزمة التي تعيشها وكالة “تونس أفريقيا للأنباء” الحكومية مساحة لا بأس بها من تغطيات وسائل الإعلام الرسمية والمعارضة، وكذلك وسائل الإعلام الدولية، التي لكل منها خطها التحريري وأهدافها الإعلامية المرتبطة بسياسات بلدانها، وتوجهات القائمين عليها، وهو ما يجعل الصورة غير مكتملة تماماً مهما زعمت الحياد، وبأضدادها تتمايز الحقائق.
وفي هذه السطور، تجلية لما جرى ويجري لوكالة مر على إنشائها أكثر من 6 عقود.
ليست بداية الأزمة
تعيين الصحفي والإعلامي كمال بن يونس مديراً عاماً جديداً لوكالة “تونس أفريقيا للأنباء” لم تكن بداية الأزمة، ولكن شبهة أن تكون حركة النهضة وراء تسميته في هذا الموقع، هو الذي أجَّج المعارضة ضد تعيينه.
ويعتقد كثيرون أنه لو تمت تسمية شخص آخر لما شهدنا هذا الكم وهذا الزخم من الاحتجاجات من قبل منظمات تتقاسمها قوى اليسار وتخمة النظام السابق من الإعلاميين والصحفيين، وهم من يقفون اليوم حجرة عثرة أمام إصلاح المؤسسات المترعة بالفساد بشهادة بعضهم كما سيأتي.
في يناير الماضي، أرسل صحفيو وكالة “تونس أفريقيا للأنباء” رسالة إلى الرئاسات الثلاث؛ الجمهورية، والبرلمان، والحكومة، يشرحون فيها وضع الوكالة ويتهمون القائمين عليها بالفساد، فلما استجابت لهم الحكومة لم يعجبهم التعيين، لقرب بن يونس من حركة النهضة، حسب زعمهم، كما لو كانت حركة النهضة ليس لأبنائها والمقربين منهم تولي المناصب، التي جعلوها حكراً عليهم وعلى المعروفين بولائهم للنظام السابق، بشرط ألا يغيّر ولاءه إلى النهضة ولا تثريب عليهم إذا انضموا لأحزاب أخرى.
موقف رئاسة الحكومة
من جهته، أكد رئيس الحكومة التونسية هشام المشيشي أنه لن يتم إعادة النظر في تعيين الرئيس المدير العام الجديد لوكالة “تونس أفريقيا للأنباء” كمال بن يونس، وذلك على خلفية تلويح العاملين بهذه المؤسسة بالدخول في إضراب عام، في حال لم تتراجع الحكومة عن تعيين كمال بن يونس في خطة رئيس مدير عام للوكالة.
وأضاف المشيشي لنفس الوكالة أن التعيين لا يتم بالانتخاب، بل بالتكليف، وقد تم تكليف المسؤول الجديد لإدارة هذه المؤسسة، من الناحية الإدارية والمالية.
ورغم طمأنته للجميع بأن الخط التحريري هو من اختصاص صحفيي الوكالة وهم الذين يحددونه ويقومون بعملهم بكل استقلالية، بعيداً عن التدخلات، فإن التجييش استمر وأخذ أبعاداً خطيرة، وصلت إلى حد الدعوة العامة (مؤسسات وصحفيين ومواطنين للاتحاد ضد التعيين الحكومي)، رغم أنه قانونياً من حقها.
“الثلاثاء الأسود”.. ولكن كيف؟
أطلق الإعلام الفرنسي الموجّه ما جرى يوم الثلاثاء 13 أبريل بمقر وكالة “تونس أفريقيا للأنباء” عبارة “الثلاثاء الأسود”، وهي تسمية لم يتم الحديث في إطارها داخل تونس إعلامياً حتى الآن.
وعندما تم رفض تعيين بن يونس وهو من الصحفيين المتمرسين والكتَّاب اللامعين في البلاد بقطع النظر عن علاقته بالنظام السابق التي أملتها كما يقول هو ظروف العمل في ظل نظام استبدادي.
وهو من المعترفين بالثورة ومن المؤمنين بالدستور، عكس آخرين ما زالوا رافضين للثورة، وغير معترفين بالدستور، ومع ذلك يلقون القبول، ولو نصب أحدهم على وكالة “تونس أفريقيا للأنباء” لما شهدنا كل هذا التهييج لحد التهريج.
وعندما أراد بن يونس ممارسة مهامه، تصدى له الرافضون لتعيينه ومنعوه بالقوة من الدخول، فاستنجد بالأمن عوض الدخول معهم في صراع لا تحمد عقباه كما حصل في وقت سابق عندما تم تعيين رئيس مدير عام على جريدة “الصباح” المملوكة للدولة عندما رمى البعض أنفسهم أمام سيارة المدير الجديد وكادت تُزهق أرواح.
أزمة الوكالة
رفض تعيين بن يونس؛ لأن المحتجين يعتقدون بأن حزب حركة النهضة وراء تعيينه، رغم أن الحركة وعلى لسان رئيس كتلتها داخل البرلمان عماد الخميري، نفى أن تكون النهضة من سمته ولكن قبلت به.
وهو ما يجعل ما يجري يعكس أزمة هيكلية داخل الوكالة، وهو ما يأخذ مساحة أكبر، ولكن نعود لوقت قريب؛ ففي 6 يناير الماضي، أرسل أكثر من 30 صحفياً من وكالة “تونس أفريقيا للأنباء” رسالة مفتوحة إلى الرئاسات الثلاث، وإلى الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد ومحكمة المحاسبات، والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين، والجامعة العامة للإعلام، انتقدوا فيها تعاطي الرئيسة المديرة العامة المقالة منى مطيبع مع الوكالة، مما تسبب في تدهور خطير للأوضاع الاجتماعية والمهنية.
ولكن لم يتم التجييش والتهييج وحالة “الحرب” التي عرفتها تونس هذه الأيام سوى بعد تعيين بن يونس خلفاً لتلك التي أرسلت بحقها برقية إلى الرئاسات الثلاث، علماً بأنه لأول مرة منذ تأسيس الوكالة في عام 1961 يحدث ما يحدث الآن من احتجاجات، وكأن الأمور في العقود الماضية كانت على أحسن ما يرام.
وقال الصحفيون في رسالتهم: إن الوضع انعكس سلباً على الإنتاج الصحفي للوكالة الذي أصبح ضحلاً ومحلّ انتقادات وحتى تندّر من قبل مهنيّين وأكاديميين في الداخل والخارج.
الفساد داخل الوكالة
وأكدت الرسالة أن الرئيسة المديرة العامة التي تم تعيينها من طرف حكومة إلياس الفخفاخ المستقيلة (لم يتم الاحتجاج على تعيينها آنذاك) أقدمت على تصعيد بعض فاقدي المشروعية المهنيّة إلى مناصب قيادية في الوكالة؛ ما أجّج حالة احتقان في صفوف أغلبية الصحفيين وأفقدهم الأمل في إصلاح البيت من الداخل.
ودعا الصحفيون إلى وضع شروط ومعايير موضوعية وشفافة للتعيين في منصب رئيس مدير عام الوكالة، يعكسها تعاقب 7 أشخاص على هذه الخطة منذ عام 2011 بما شكّل عاملاً مزعزعاً لاستقرار المؤسسة (لم يتم الاحتجاج على أي منهم وتم الاحتجاج على الثامن).
وتمت المطالبة بمراجعة كل الترقيات القائمة على المحسوبية والمحاباة والاعتبارات غير المهنية، وإجراء تدقيق في الفساد المالي والإداري المتراكم والمتستّر عليه في الوكالة، ونشر نتائجه للعموم، مع إحالة ملفات الفساد على القضاء.
كما دعوا إلى تعليق العمل بكل الأطر القانونية والترتيبية والإدارية، المتعارضة مع الدستور، والمتصلة خصوصاً بحرية الصحافة والتعبير، وقيم الشفافية والنجاعة والمساءلة والمحاسبة، ومكافحة الفساد، في انتظار وضع إطار قانوني جديد متناغم مع دستور الجمهورية الثانية.
إضافة إلى الإسراع بتنظيم ندوة وطنية للخروج بمشروع إصلاحي متكامل لوكالة “وات” حتى تكون فعلاً “قاطرة” للإعلام العمومي.
حقوق الصحفيين
وقد تضمنت الرسالة مجموعة من النقاط المنتقدة للرئيسة المديرة العام لوكالة “تونس أفريقيا للأنباء” تتمثل في تحميل الرئيسة المديرة العامة منى مطيبع كامل المسؤولية عن التدهور الشامل للأوضاع، وشجب احتكامها إلى منطق المحسوبية والمحاباة والغنيمة والمحاصصة، وانعدام الشفافية في إسناد خطط وظيفيّة (ترقيات) شملت، في أغلبها، مقرّبين منها، وأصدقاء “منسق التحرير” المنصّب من الإدارة، خلال فترة الحجر الصحّي العام، لمجد حمداني.
وأكدت الرسالة أن أغلب هذه الترقيات وُضع على مقاس الأصدقاء والمقربين، ومنهم من هو متورط في الفساد الإداري (وتمّ التستّر عليه)، أو عديم الكفاءة المهنية في مجال عمله.
وأدانت الرسالة تعمّد حرمان صحفيين استوفوا جميع الشروط الموضوعية والقانونية لنيل الخطط الوظيفية (سواء في المقر المركزي أو في الجهات) من حقهم في التدرّج المهني، لاعتبارات بعضها يتعلّق بتصفية حسابات شخصية.
واتهمت الرسالة بأن الوكالة لا تزال سبباً في استشراء الرداءة والفساد والمحسوبية والتعسّف الإداري والإفلات من المحاسبة والعقاب.
ونبهّت إلى أن هذه الأطر القانونية القامعة لحرية التعبير والصحافة، التي لم تخضع، بعد الثورة، إلى أي مراجعة أو تحيين، غير دستورية، وحذرت الرسالة من محاولات ودعوات بيروقراطيين داخل الوكالة لتطبيق تلك الأطر على الصحفيين المنتقدين للإدارة من أجل تكميم أفواههم، والتعتيم على حقيقة الأوضاع داخل المؤسسة المموّلة من ضرائب المجموعة الوطنية.
فلما استجابت لهم حكومة المشيشي نسوا كل ذلك وركزوا على شخص لا ينتمي لفصائلهم.