من المعلوم أن العشر الأواخر من رمضان خصت في السنة النبوية بطقوس خاصة بها، ففي الحديث الشريف عن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر شد مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله”[1]، فهي ثلاث خصال كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعلها في هذه العشر، ولعل العلة في ذلك كما يرى الإمام ابن بطال أنه عليه الصلاة والسلام لما أخبر أن ليلة القدر في هذه العشر “سن لأمته الأخذ بالأحوط في طلبها في العشر كله لئلا تفوت”[2].
الثمرة الأولى من ثمار الهدي ثمرة شد المئزر، وهو كناية عن اعتزال النساء، فلا يقرب الإنسان فراش زوجته، وفيه من ثمار الهدي تربية النفس وإحساسها بأن عبادة الله أولى من غيرها، فإذا كان الله تعالى قد أحل الرفث ليلة الصيام فإن سنة النبي الفعلية قيدته بأيام دون أخرى، وبساعات دون أخرى، لأن إشباع الرغبات لا حد له، فالنفس إذا تركت ورغباتها طغت على الجسد، فأوردته المهالك، وجلبت له المفاسد، وكثيرا ما يصاب الإنسان من قبل شهوته الجنسية، لذلك نجد في القرآن النهي عن الأسباب المؤدية للزنا وما شاكله قبل الزنا، والتي من جملتها النظر، لأن الإنسان إذا نظر فكر، وإذا فكر فعل، فأمر الله تعالى الرجل والمرأة بغض البصر، فثمرة شد المئزر في العشر الأواخر تتجلى في تهذيب النفس لتصبح نفسا مطمئنة، ترضى بما قسم الله لها، فتقف عند حدودها الشرعية، دون زيغ أو طغيان.
الثمرة الثانية من ثمار الهدي إحياء الليل، والمراد به هنا قيامه بالقرآن أولا، لأن المقام مقام الاحتفال بنزوله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخير ما يفعله من يريد إحياء العشر قراءة القرآن الكريم، لأن قراءته تزكي النفس، وتريحها، خاصة إذا علم القارئ أنه بقراءته كأنه يكلم الله تعالى، يأخذ بكل حرف نطق به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، فهي فرصة إذن، قد لا يصيبها الإنسان مرة أخرى في حياته، لأن العمر مبني على الظن لا على اليقين، فلا تدري نفس بأي أرض تموت، ولا في أي لحظة يأتيها ملك الموت، لذلك علمنا صلى الله عليه وسلم اغتنام الفرص، خاصة منها فرص الأزمنة المفضلة عند الله، لأن الزمان يفضل بعضه على بعض كما تفضل الأمكنة أيضا بعضها على بعض، والبشر بعضه على بعض، والكلام بعضه على بعض وهلم جرا.
فزمان رمضان ليس كزمان غيره، وزمان العشر ليس كزمان غيرها من الأيام الأخرى، لذا يجب اغتنامها بالقول الحسن، وبالفعل الحسن، وأن يجدد الإنسان علاقته بالقرآن ويترك غيره من الكلام.
الثمرة الثالثة من ثمار الهدي النبوي في العشر، ثمرة إيقاظ الأهل، والمراد بالأهل هنا الزوج والزوجة وما تحتهما من الذرية، أما الأمر الذي كان عليه الصلاة والسلام يوقظهم لأجله فهو الصلاة، يقول ابن حجر: “قوله وأيقظ أهله أي للصلاة”[3]، لأنها هي العبادة الواحدة التي تتكر كل يوم خمس مرات، فناسب إيقاظ الأهل لها والتشدد في أدائها ولو مرة واحدة، يقول ابن بطال في شرحه لهذا الحديث: “وفي قوله: (أيقظ أهله) من الفقه أن للرجل أن يحض أهله على عمل النوافل، ويأمرهم بغير الفرائض من أعمال البر، ويحملهم عليها”[4]، لأن الزمن الذي أمروا بإحيائه زمنا خاصا، تكون فيه النفس لينة مرنة، تطيع صاحبها إذا أراد تعويدها على شيء حسن تكرهه.
ومن هنا كان ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم من ثمار يسهل على النفس اقتطافها، لأن الزمن يناسبه، ففي العشر تكون النفس قد وصلت لدرجة عليا من درجات استقبال الأوامر الشرعية، بعدما قطعت أشواطا من الصيام والقيام، فيكون الإنسان قد أصبح لين الطبع، تحرر ولو قليلا من قيود نفسه، لأنه مقبل على النهاية، والنهاية غالبا ما تكون عكس البداية، خاصة في شهر رمضان، لأن النفس في البداية تكون نوعا ما مكرهة غير متعودة على الصيام وطقوسه الإيمانية، فعندما تبلغ العشر تكون قد روضت وأصبحت قابلة للإصلاح، مطمئنة بالإيمان ومحبة للقرآن.
________________________
[1] صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، ط/1422هـ، ج3، ص47.
[2] شرح صحيح البخاري، لابن بطال، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، دار النشر: مكتبة الرشد، السعودية، الرياض، ط2/1423هـ2003م، ج4، ص159.
[3] فتح الباري شرح صحيح البخاري، ابن حجر العسقلاني، دار المعرفة، بيروت، ط1379ه، تحقيق: فؤاد عبد الباقي ومحب الدين الخطيب، ج4، ص269.
[4] شرح صحيح البخارى، لابن بطال، تحقيق: أبو تميم ياسر بن إبراهيم، دار النشر: مكتبة الرشد، السعودية، الرياض، ط2/1423هـ2003م، ج4، ص159.
(*) دكتوراه في الدراسات الإسلامية، تخصص الفقه وأصوله ومقاصد الشريعة، أستاذ باحث من جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية الآداب والعلوم الإنسانية، سايس، فاس، المغرب، البريد الإلكتروني: ataibiahmed@gmail.com