يعاني القطاع الخاص في مصر حالة من التراجع الملحوظ، في ظل استحواذ المؤسسة العسكرية على النشاطات الاقتصادية، مما يدفع أصحاب الأعمال إلى البحث عن نشاطات أخرى لا يعمل فيها الجيش أو الخروج من السوق المحلي إجمالاً والبحث عن أسواق أخرى.
فأظهر مسح أجرته مؤسسة “آي إتش إس” ماركت العالمية للأبحاث، انكماش القطاع الخاص غير النفطي في مصر للشهر الخامس على التوالي في أبريل، إذ تراجعت المبيعات والتوظيف بوتيرة سريعة وارتفعت تكاليف المدخلات.
ونزل مؤشر “آي.إتش.إس ماركت” لمديري المشتريات إلى 47.7، وهي أدنى قراءة له منذ يونيو 2020م، وذلك بعد أن وصل 48 في مارس الماضي، ليظل دون مستوى الخمسين الفاصل بين النمو والانكماش.
وبدأ القطاع الخاص غير النفطي بالكامل الانكماش في ديسمبر، موقفاً سلسلة نمو لثلاثة أشهر متتالية، إذ أدى تجدد ارتفاع وتيرة الإصابات بفيروس كورونا إلى تراجع الطلب.
واستمر عدد الوظائف في الانكماش، مواصلاً انخفاضاً بدأ في نوفمبر 2019م. وانخفض المؤشر الفرعي للتوظيف إلى 47.6 في أكبر انكماش له منذ أغسطس، وذلك من 48.9 في مارس.
أسباب التراجع
ويرى البنك الدولي أن القطاع الخاص في مصر ممنوع من الاضطلاع بدور أكبر في الاقتصاد على الرغم من إصلاحات نشطة للاقتصاد الكلي على مدار السنوات الأربع الماضية، وإن هناك حاجة إلى مساعدة من الحكومة.
وأشار البنك إلى أنه على الرغم من خفض مصر لقيمة عملتها بنحو النصف في نوفمبر 2016م، إلا أنه لا تزال أقل من صادرات الدول المنافسة.
وبحسب الخبير الاقتصادي، عبدالحافظ الصاوي، فإن أسباب التراجع الحاصل للقطاع الخاص جزء كبير منه يعود إلى القرارات والسياسات الاقتصادية الموجودة مثل قرار منع البناء لفترة معينة وفي مناطق معينة مما يؤثر بالسلب على الشركات العاملة في قطاع البناء والتشييد وما يرتبط به من أنشطة كالحديد والأسمنت وغيرها.
وأشار الصاوي، لـ”المجتمع”، أن ما يمارسه الجيش من احتكارات في كثير من الاستثمارات ومنها العامة التي تقوم بها الحكومة يساهم بشكل كبير في تحجيم القطاع الخاص؛ مما يعني أن هناك عنصراً جديداً أصبح يزاحم القطاع الخاص بشكل كبير بعد أن كان يساهم بنسب ضئيلة سابقاً.
وفي هذا السياق، قالت وكالة “بلومبيرج” الأمريكية: إنه مع تزايد شركات الجيش، يضطر المستثمرون، سواء الأجانب أو المحليون، إلى التعامل مع الوضع المُثبط المتمثل في التنافس مع مؤسسةٍ تحظى بمجموعة من المزايا النسبية، مثل الإعفاءات الضريبية ولوائح تنظيمية أكثر مرونة، وعمالة تتقاضى أجوراً أقل، والوصول المتميز إلى الائتمان.
من جانبه، أرجع أستاذ الاقتصاد، أحمد ذكرالله، أسباب تراجع القطاع الخاص في مصر إلى تآكل القوة الشرائية للمواطن المصري المشتري الأكبر للقطاع الخاص، إضافة إلى زيادة تكاليف الإنتاج بعد تعويم الجنيه ورفع الدعم وزيادة الضرائب والرسوم المختلفة على أنشطة القطاع الخاص في مصر.
وأضاف ذكرالله، لـ”المجتمع”، أن تلك العوامل تؤدي إلى انخفاض التنافسية إلى حد كبير، وبخاصة في ظل تنافسية شديدة مع منتجات ذات جودة عالية من دول كبيرة في الحجم الإنتاجي مثل تركيا والصين وغيرهما، مشيراً إلى وجود مشكلات بيئية وقانونية تكبح نمو القطاع الخاص أيضاً.
كبح النمو
يساهم القطاع خاص في مصر في توظيف نحو 78% من القوة العاملة، وتحجيم هذا القطاع يؤدي إلى زيادة البطالة (حيث يدخل نحو 800 ألف خريج إلى سوق العمل سنوياً)، بالإضافة إلى هروب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية إلى الخارج وكبح معدلات النمو الاقتصادي للبلاد.
ويرى الصاوي أن تراجع القطاع الخاص يعني ارتفاع معدلات الفقر وتراجع معدلات النمو الاقتصادي، مشيراً إلى أنه على الرغم من حديث الحكومة عن معدلات نمو تصل إلى 5.2% قبل أزمة كورونا و2.8% بعد الأزمة، فإن العبرة ليس بمعدل النمو ولكن بمردود هذا النمو، مشيراً إلى أنه مع سيطرة الجيش على مفاصل الاقتصاد فإنه من الممكن أن تحصل المؤسسة العسكرية على نسبة كبيرة من ثمار النمو عوضاً عن الطبقة الفقيرة والمتوسطة.
كما أن تراجع القطاع الخاص يؤدي إلى تعطيل التنمية المستدامة، وفتح المجال أمام القطاع العام الذي يتميز في الغالب بالتبذير وعدم الرشادة في استخدام الموارد، وعدم القدرة على المنافسة نتيجة تراجع الإبداع والابتكار الذي يخلقه القطاع الخاص.
ويؤكد الصاوي أن تحجيم القطاع الخاص يؤثر على تنمية قدراته وابتكاراته الخاصة، حيث إنه في ظل محدودية الحصول على ثمار النمو لا يكون قادراً على توفير التمويل اللازم للتنمية أو لشراء ما يلزمه لتطوير عمله في الاقتصاد المصري.
نحو الأسوأ
وفي ظل هذا التراجع المستمر للقطاع الخاص وضبابية النشاط الاقتصادي للمؤسسة العسكرية، فإن مستقبل القطاع الخاص في مصر يظل غير واضح.
وأوضح الصاوي أن مستقبل القطاع الخاص في مصر الفترة القادمة ما لم تتغير السياسات الموجودة من قبل الحكومة المصرية وتراجع الجيش بمساحات كبيرة في النشاط الاقتصادي لصالح القطاع الخاص، فسيظل القطاع الخاص محاصراً، وبالتالي لن يساهم بطريقه أو بنسبة مقبولة على الأقل في معدلات النمو وفي حل مشكلة البطالة والفقر.
بدوره، يرى ذكرالله أن القطاع الخاص نما في مصر في بيئة ريعية وغير إنتاجية، حيث يعيش على إقطاعيات الدولة، وبالتالي يجب العمل على وضع رؤية اقتصادية عمليّة ومتسقة، من شأنها تقديم توصيات واقعية بشأن السياسات حول كيفية تحقيق نمو مستدام قائم من خلال هذا القطاع لزيادة فرص العمل والعدالة الاجتماعية.
وتوقع ذكرالله أن وضع القطاع الخاص يسير نحو الأسوأ، وبخاصة أن مشاريع الجيش كلها تتقاطع مع القطاع الخاص، مشيراً إلى أن صندوق النقد الدولي لن يفلح في إنهاء أو إجبار السلطة المصرية على التراجع عن التدخل في النشاط الاقتصادي.
وتابع: “وبالتالي فنحن أمام سيناريو شديد السوء بالنسبة للقطاع الخاص في مصر خلال الفترة المقبلة، وبخاصة أن مؤشر مديري المشتريات الذي يقيس نشاط القطاع الخاص غير النفطي في مصر ظل متراجعاً لمدة تقارب أربع سنوات كاملة، إلا في بعض الأشهر القليلة في هذه الأربع سنوات، مما يعطي مؤشراً أن الأمور لا تسير على ما يرام”.