الاستشارة:
أستاذي الفاضل، أكتب إليك وقد وصلت إلى حالة من الشتات النفسي أثرت كثيرا على عملي وعلاقاتي.
بدأت مأساتي منذ حوالي 25 سنة تقريبا، كنت وقتها مدرسا مساعدا بإحدى الكليات، وكنت مهتما جدا باستكمال دراستي للدكتوراة، منطويا ليس لي أي اهتمامات حتى علاقاتي الاجتماعية محصورة بزملاء التخصص فقط.
وهي كانت طالبة متميزة في كل شيء علميا واجتماعيا، فهي عضوة اتحاد الطلبة ومسؤولة لجنة الرحلات، علاقات مع الجميع من عميد الكلية حتى الفراشين، محل تقدير واحترام الجميع. شاء الله أن أدرسها في السنة الثالثة والرابعة بالكلية. لفت نظري ذكاؤها العلمي والاجتماعي وتفوقها العلمي والثقة العالية في التعامل، ولكثرة أنشطتها لم تتمكن من تحقيق التفوق الذي يمكنها من العمل كمعيدة. واكتشفت أنني كنت في قمة السعادة عندما أتت مكتبي بعد إعلان النتيجة تشكرني وباقي هيئة التدريس وتخبرني بأن اتحاد الطلاب قرر الاستعانة بخبراتها، وأنها ستزور الكلية مرة كل أسبوع.
أثناء عودتي للمنزل لم تفارقني صورتها، وفكرت في الارتباط بها، ورغم قناعتي بحسن خلقها إلا أنني وجدتني مترددا لشخصيتها المنفتحة جدا، وظللت في حيرة من أمري، إلا أنني اتخذت القرار بالارتباط بها، مبررا ذلك بأنه لا يمكن قياس سلوك الزوجة بسلوك الطالبة، وأنها من المؤكد لديها الحكمة التي ستقرر بها تعديل منهج حياتها للتوافق مع شخصيتي.
وفعلا تقدمت لها، وكان هناك تجاوب وتوافق بيننا، ولأول مرة أشعر بطعم الحب والسعادة، ولم يكن هناك تقريبا ما يعكر صفو علاقتنا، فالاتفاقات المادية وإجراءات الزواج تمت بيسر ولله الحمد، ولكن لم يحدث أي تغير في سلوكها خلال فترة التعارف، فقد تتلقى تليفونا من زميل من أيام الدراسة أو عضو من فريق كرة السلة التي تلعبها بالنادي أو جار لهم أو …. وبكل ذوق وأدب تستأذني للرد على المكالمة- وتتحدث معه في وجودي وقد تفتح الصوت، ثم تعتذر له لاستكمال الحديث فيما بعد لانشغالها بوجودي.
ورغم ضيقي إلا أنني لم أظهر لها أي امتعاض أو ألفت نظرها. وكنت أبرر ذلك لنفسي بأنه ليس هناك أي شكل من العلاقات بيننا فنحن ما زلنا في مرحلة التعارف، وأكيد بعد الخطوبة ستتغير.
وتمت الخطوبة، ولم يحدث تغيير، وكنت أبرر ذلك لنفسي بأننا ما زلنا في مرحلة الخطبة، وأكيد بعد العقد ستتغير. وتم العقد، ولم يحدث تغيير، وكنت أبرر ذلك لنفسي بأنه أكيد بعد ما نكون في بيتنا ستتغير. وتزوجنا، ولم يحدث تغيير، وكنت أبرر ذلك لنفسي بأننا ما زلنا في أول حياتنا للتنعم بها، وعندما تستقر أمورنا ستدرك متطلبات الحياة الزوجية. مرت خمس سنوات دون حمل، وانشغلت أنا بأبحاثي وهي في عالمها وأنشطتها ولم أهتم كثيرا لأنني لم يكن لدي وقت لملء حياتها.
ولكن مع استمرارها على نمط الحياة المنفتحة دون حدود، حدثتها خاصة بعد ما فرحتني بأنها حامل، وكم صدمت من ردها: “أنت عارفني منذ كنت طالبة، وتقدمت لي ولم أمثل عليك، ولم تناقش هذا الفكر المنغلق لك معي خلال مراحل زواجنا، وأنا قبلتك كما أنت ولم أطلب منك أن تتغير وتشاركني صداقاتي المحترمة، والآن بعد أن أصبحت زوجتك تعتقد أن بـرموت كنترول تريد أن تحولني لدمية آسفة”.
ونظرا لحبي لها وفرحتي بأن أكون أبا، حاولت إقناعها، وفي النهاية وعدتني بأن تقلل من انفتاحها. ولكن لم يحدث تغيير ملحوظ حتى عندما نكون معا نشتري بعض الاحتياجات، بدون أي مراعاة لوجودي هي التي تناقش وتفاصل مع البائع وتتخذ القرار بشأن الشراء! حتى كنت كثيرا ما أتركها تنزل للمهام المنزلية لوحدها، ومع انشغالي بأبحاثي، رويدا رويدا عشنا في عالمين مختلفين.
رزقنا الله بابنتنا الأولى وعشنا لحظات مفعمة بالحب، وكلمتها ووعدت وعادت، واشتد الخلاف وفي لحظة انفعال تم الطلاق، واعتذرت لها ورددتها فورا، ورزقنا بابنتنا الثانية.
حدثني صديق لي يعمل بإحدى الجامعات العربية عن حاجاتهم لتخصصي فوافقت فورا على أمل أن أبعدها عن معارفها، طلبت مني العمل، عملت مدرسة رياضيات وتفوقت وأقامت علاقات أخرى مع الإداريين وأولياء أمور الطلبات… ما سبب لي ضيقا، ولعلمي لفشل الحديث معها قررت العودة واشتد الخلاف بيننا ووقع الطلاق الثاني، وتدخل الأهل وراجعتنها.
وظل حالنا كما هو أتجنب الظهور معها اجتماعيا، وفي البيت أنا منهمك في دراساتي وهي لها عالمها سواء في النادي أو أنشطة اجتماعية أو ثقافية.
كبرت البنات ولاحظت إن ابنتي الكبرى وكان عمرها تجاوز العاشرة تتحدث تلفونيا مع ولد من النادي بطريقة أثارتني، وهنا قلت لا بد من وقفة لأن الخطر تعدى إلى البنات، والمحصلة طلقة ثالثة، بعد 15 سنة زواج، ولعلمها مدى ارتباطي ببناتي، حرمتني منهن، وانقطعت صلتي بها وبالبنات.
وهروبا من الوحدة تزوجت بعد سنتين، وسرعان ما انفصلت، وانغمست في أبحاثي.
منذ أسبوع فوجئت بسكرتير القسم يبلغني بأن فتاة رفضت ذكر اسمها تركت تليفونها وتستسمحك أن تتصل بها! لم أهتم لكثرة ما أتلقى من مكالمات الطلاب، ولكن مع تكرار طلب الاتصال، اتصلت بالرقم وكانت المكالمة كالصاعقة!
أنا ابنتك يا دكتور؟ ملخص المكالمة المبكية. خلال العشرة سنوات ابنتي الكبرى بلغت العشرين عاما بالسنة الثانية بالجامعة، والصغرى بلغت الثامنة عشرة بالثانوية العامة، استطاعت والدتهما أن تتكفل بنفقاتهما بمستوى مادي طيب من خلال عملها، ونظرا لعدم تواصلي معهما فقد عانيتا كثيرا من فقداني في حياتهما.
تزوجت والدتهما ولم تخبرهما ولكن سرعان ما طُلقت. الآن ومنذ جائحة كرونا تأثر دخل والدتهما، وأثر ذلك على حالتهما النفسية.
تطلب ابنتي مني التفكير في العودة وجمع شملنا من جديد.
هل أعود؟
التحليل:
نحن أمام محورين:
-
علاقة المطلقين والأولاد: شرعا الوالد مسؤول عن كل تكاليف معيشة الأولاد طبقا لقدرته المالية، كما أنه مسؤول أيضا عن تربيتهم، حتى وهم بحضانة والدتهم. الطلاق يعني قطع العلاقة الشرعية بين الزوجين، ولكن في حالة وجود أولاد يجب أن تستمر العلاقة الطيبة وأن يتعاونا معا لاستكمال تربية الأولاد، ولا يتحول الطلاق إلى طلاق الزوجة والأولاد، أو ينتقم أي من الوالدين من الآخر في الأولاد. وعليه فالأخ الكريم وقع في خطأين:
- تخليه عن تربية بنتيه ورعايتهما وهو الأخطر والأهم، ” كفى بالمرء أثما أن يضيع من يعول” الحديث. وعليه الاستغفار والاعتذار لهما وتعويضهما عما افتقدتاه من حب وحنان أبوي ورعاية.
- عدم تحمل تكاليف معيشة بنتيه، معللا ذلك بأن مطلقته استقلت بالأولاد، وعليه تعويض مطلقته ماليا عما تحملته نظير تربية البنات.
-
أخي الكريم أنت وأنت فقط المسؤول عما تعانيه من إخفاقك اجتماعيا، ولنعد لنقطة البداية:
- على كل فتى وفتاة في سن الزواج أن يحدد متطلباته الأساسية التي بدونها لا يمكن أن يستكمل مشروع زواجه، ويجب أن يتأكد من توافرها خلال محطات الزواج من تعارف وخطبة وعقد وبناء، أو على الأقل أن يعلمه بها إن لم تكون متوافرة. إن فترة التعارف الأولى تعطي انطباعا أوليا، عن كل طرف، قبل الانتقال عبر محطات إجراءات الزواج. يجب التقييم لكل متطلباتي في زوجي المأمول، وأن يظهر كل طرف بطبيعته، وأن يبدي كل ملاحظاته وما يستحسنه وما يسيئه مع التركيز على الأساسيات والتي بدونها لا يمكن أن يتزوج، ويرى مدى استجابة الطرف الآخر لها، كما يجب عليه أيضا أن يكون صريحا تجاه ملاحظات الآخر عليه، فلا يعده بالاستجابة إلا إذا كان قادرا على ذلك أو يعتذر وعليه أن يقبله كما هو إن شاء، وإلا فكل شيء نصيب. من واقع المشاكل الزوجية التي تعرض علينا، حوالي 90% من الشكوى لصفات كانت واضحة جلية قبل البناء، ولكن الغفلة والتغافل والفهم الخاطئ “بكرة نتزوج وتتعدل الأمور ويتغير”، وعليه:
- تقدمت لفتاة تمارس أنشطة عامة ولها علاقاتها، وأنت إنسان منطو.
- طليقتك لم تخدعك، واستمرت في ممارسة حياتها دون أي اعتبار لمتغير حدث في حياتها خلال فترة الخطبة ثم العقد ثم السنوات الأولى لزواجكما! دون أي اعتراض منك، على أمل أن تدرك هي من نفسها دون أي إشارة منك لمتطلبات المرحلة من تغيير!!! ولعلك استحسنت ذلك لانشغالك عنها بأبحاثك!!!
- تم الطلاق لعدم استجابتها وتمت العودة دون الأخذ بالأسباب التي تحول دون تكراره، ولذا تكرر وتكرر، وانكفأت على ذاتك، وكررت زواجك وطلاقك، ثم أفقت على صوت ابنتك التي تركتها طفلة ذات عشرة أعوام، فإذا بها فتاة ذات عشرين عاما.
رأي:
أولا- البنات:
يجب معالجة قصورك تجاه بنتيك، وتعويضهما عن حرمانهما منك لمدة عشر سنوات ولا يرتبط هذا بعلاقتك بوالدتهما والتي يجب تعويضها ماليا عما أنفقته على بناتك بدلا منك.
ثانيا- طليقتك:
حدد أهم ما تتطلبه من طليقتك حتى تعود الحياة الزوجية بينكما، ورغم قيمة وأهمية أثر عودتكما كزوجين على البنات، إلا أنه يجب تقييم كل منكما للآخر وما يتطلبه منه، ومدى استعداد كل منكما أن يلبي تطلعات الآخر، وتقييم حياتكما الماضية ليس للوم أو تحميل كل طرق الطرف الآخر المسؤولية عما آلت أليه الأمور، ولكن لأخذ العبرة والتعلم من الدرس، وإعادة بناء حياتكم على أسس واتفاقات واضحة يلبي كل زوج احتياجات زوجه، ولعل احتياجات البنتين لحضن دافئ وتوجيه يكون دافعا لأن يبذل كل منكما جهده لبناء عش زوجية سعيد.