تعيش المرأة المقدسية (الفلسطينيات في مدينة القدس المحتلة) تحت وطأة ضغوط هائلة، ربما لا توجد في أي مكان آخر في العالم بأسره؛ فهي تعيش وتناضل في مواجهة مباشرة مع أكثر الجيوش عنصرية وتوحشاً، ومستوطنين نرجسيين مسلحين لا يقلون توحشاً عن جنود جيشهم، في ظل خطة ممنهجة لتهجيرها وأهلها قسرياً عن طريق خلق بيئة تجعل الحياة غير محتملة وغير ممكنة.
تواجه المرأة المقدسية تحديات معقدة على أكثر من مستوى تتصدى لها جميعاً بروح المرابطات المجاهدات التي تتجاوز كثيراً الحسابات المادية الضيقة، وتواجه الاحتلال بنفسها في مواجهات قاسية ينسى جنود الاحتلال فيها أنهم يتعاملون مع أنثى، ولعل مشاهد العنف والضرب والسحل والاعتقال التي يشاهدها العالم كله جزء صغير من الصورة التي تعيشها تلك المرأة المرابطة.
أما ما يحدث بعد ذلك في أماكن الاحتجاز فهو الجزء الأكثر بشاعة من الصورة، الذي لا تنقله الكاميرات، وهذه شهادة هنادي الحلواني الحية عن تجربتها في الحجز: «تم احتجازي في عزل انفرادي وحيدة في غرفة أشبه بالمرحاض، إذ تم نزع كافة ملابسي وهو ما يعرف بالتفتيش العاري، وما آلمني حقاً أن كان هناك ثلاث كاميرات تقوم بتصوير كل ما يحدث حتى بعد أن انتهوا من نزع ملابسي تركوني بتلك الغرفة أكثر من 15 دقيقة وحيدة بدون ملابسي، فقط أمام الكاميرات».
هكذا عارية في غرفة قذرة نتنة الرائحة من أجل تحطيمها نفسياً وإفقادها تلك الروح المقاوِمة.
معاناة مضاعفة
الحقيقة أن اعتقال النساء يمثل معاناة مضاعفة عن الرجال، ليس لضعف البنية الجسدية فحسب، بل بسبب أنهن قد يعتقلن أثناء فترة الحيض ولا تسمح قوات الاحتلال الصهيوني بحفاظات نسائية لهن نكاية فيهن، وإمعاناً في الإذلال؛ لذلك تقوم المجاهدات بحمل تلك الأغراض النسائية معهن باستمرار تحسباً للاعتقال في أي وقت.
كما أن أحد ملامح الخطة الشيطانية لتهويد القدس أن تكون المدينة طاردة لأهلها، فمع استحالة الحصول على رخصة للبناء، ومع الزيادة السكانية تكدس المقدسيون في بيوتهم حتى إنه من الشائع أن تجد رجلاً وزوجته وأطفاله الذين قد يصلون لأربعة يعيشون في غرفة واحدة في بيت والده، هنا تقوم المرأة المقدسية بأهم أدوارها أن تجعل من هذه الحياة ممكنة مع تفاصيل الحياة اليومية الكثيرة والمرهقة، وغياب أبسط حقوق الإنسان أن يكون لك خصوصية في بيتك.
يهدف الاحتلال من وراء ذلك التقييد لأحد أمرين؛ أن يرحل سكان القدس عن أرضها التي ضاقت بهم، وهو الأمر الذي ترفضه النساء قبل الرجال، أو اللجوء للبناء غير المرخص حتى يستطيعوا التنفس، وهنا تقابل المرأة المقدسية تحدياً آخر، فبعد أن تكون قد وضعت كل مدخرات أسرتها في بناء بيت وربما استدانت أيضاً من أجل البناء، يتم هدم البيت ربما قبل أن تنتقل إليه مع تحمل نفقات الهدم أيضاً، فالمسألة تتجاوز الأزمة المادية الخانقة التي تعيشها الأسرة التي يهدم منزلها، ولكنها ضياع الأمل والحلم الذي نسجته لبيت خاص يتسع ولو قليلاً لأسرتها.
التعليم والهوية
خطة التهويد الشاملة تسير على عدة محاور متوازية؛ فمن الناحية المادية تضيق على المقدسيين أرزاقهم وتضيق بهم أرضهم وبيوتهم حتى تصبح الحياة خانقة ويغادرون، أو تسحب هويتهم ويطردون ويحال بينهم وبين المدينة المباركة.
لكن هذا كله لا يفلح ما دام يتمسك المقدسيون بهويتهم وأرضهم وجذوة المقاومة مشتعلة في نفوسهم؛ لذلك كان المسار الثاني هو محاولة تذويب هذه الهوية أو التشويش عليها لتحقيق التهويد و»الأسرلة» عن طريق السيطرة على التعليم؛ فكما منعت الرخصة عن البيوت المقدسية، منعت الرخصة لبناء المدارس حتى لو كانت بضعة فصول ملحقة بمدرسة موجودة بالفعل، فضاقت المدارس المقدسية بطلابها، وكثير منها بلا فناء أو مختبرات، والكثير منها بعيد جداً عن الطلاب، وزاد الجدار العازل وبواباته من البعد وصعوبة الوصول، وأصبح أمام الأسرة المقدسية أحد خيارين؛ إما تسرب الأبناء من التعليم، وهناك أرقام مرعبة عن نسبة هذا التسرب خاصة مع مغريات الأجور المرتفعة للعمل في ظل الحصار والفقر، ثم -بمخطط خبيث- يتم استهداف هؤلاء المتسربين لعالم المخدرات.
أما الخيار الثاني، فهو التحاق الأبناء بمدارس تابعة لمنهج التعليم الصهيوني؛ حيث المدارس قريبة وحافلات لتوصيل الطلاب مجاناً ومختبرات حديثة، وفي المقابل يتم تهميش اللغة العربية التي يتم تدريسها باللهجة المحلية مع تجاهل مادتي النحو والبلاغة في مقابل الاهتمام الشديد بتعليم العبرية، وحيث مصطلحات جديدة للتأكيد على يهودية المدينة والأراضي بأكملها، فـ»حائط المبكى» لا حائط البراق، و»يهودا والسامرة» لا الضفة الغربية.
وفي منهج التاريخ تم حذف كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، وكون القدس مدينة محتلة، وكل ما يتعلق بمعركة «حطين»، حتى منهج الدين تم حذف السور والآيات التي تتحدث عن الجهاد.
يدرس الطلاب بحسب المنهج الصهيوني أن القدس عاصمة «إسرائيل»، وأن النشيد الوطني هو النشيد اليهودي (هتكفاه)، وعلم الدولة هو العلم «الإسرائيلي»، والشعار هو الشمعدان اليهودي.
هذا الوضع التعليمي المريع القابل للتمدد الذي يضرب الهوية المقدسية في مقتل إذا حقق أهدافه لم تستسلم له الأسرة المقدسية، خاصة الأمهات والنساء اللاتي أخذن على عاتقهن مواجهة هذا التحدي الخطير الذي يهدف لاستلاب وتهويد العقول؛ فكان لا بد من مواجهة هذا التزييف بالحقائق الدامغة من خلال مصاطب العلم في ساحات الأقصى التي هي بمثابة مدرسة غير تقليدية، وكانت المقدسيات هن المعلمات والمشرفات، حيث كان الأطفال والناشئة يدرسون علوم الدين واللغة والتاريخ، لكن الاحتلال سارع إلى تجريمها وحظرها واعتبارها تنظيماً إرهابياً.
لكن المقدسيات أشرفن على الأنشطة الموجهة للأطفال في مكتبة الأقصى للأطفال التي تم افتتاحها بعد منع الاحتلال لمصاطب العلم، تقول رزان شريف، المسؤولة عن الفعاليات في مكتبة الأطفال بالمسجد الأقصى عن البرامج التي تقدمها: إن برنامج «حروف وكلمات» مخصص للأطفال الصغار يتعلمون فيه كلمات في اللغة العربية من خلال الألعاب اللغوية، أما برنامج «قواعد اللغة العربية» الذي يتدرب فيه الأطفال على أساسيات قواعد اللغة بطريقة شيقة، و»فهم المقروء» وهو برنامج يختص بالقصص لتعليم المشارك الاستماع والتحليل والتركيب والمناقشة وإبداء الرأي، أما «تحسين الخط» فيتعلم فيه الأطفال من خلال محاكاتهم للمدربة طريقة كتابة الحروف الصحيحة بخط النسخ.
وهناك نشاط «فرسان» الذي يهدف لبناء وتعزيز القيم الإسلامية الإيمانية بشكل يتناسب مع مراحل نمو الإنسان وخصائصه الطبيعية، وبما ينعكس إيجاباً على شخصيته وتفاعله مع أسرته ومجتمعه.
رباط المقدسيات
تقوم الأمهات والجدات المقدسيات بدور بالغ الخطورة والأهمية في تلقين الأبناء السرديات الكبرى والحقيقية لفلسطين والقدس.. لمن كانت هذه الأرض؟ وكيف جاء هؤلاء المستوطنون؟ وكم من جريمة ومذبحة ارتكبوا؟ كل التفاصيل الصغيرة تحكيها وتسردها الأمهات والجدات محملة بعواطف لا يمكن نقلها في الكتب.
إنها عواطف الحنين والاشتياق والأمل مغلفة بروح الصمود والجهاد والتحدي، تلك العواطف التي تتجسد حية في كل زيارة لهؤلاء الأبناء للمسجد الأقصى بصحبة هؤلاء الأمهات اللاتي جعلن من الأقصى أكبر بكثير من مجرد مكان للصلاة؛ فهو مكان اللقاء والتجمع ولعب الصغار، وتناول الطعام الفلسطيني التقليدي؛ فهؤلاء المقدسيات لا يحقرن من المعروف شيئاً ولو كان الحفاظ على تفاصيل التراث الفلسطيني من الطعام كـ»المقلوبة» التي قُدمت لصلاح الدين الأيوبي حين فتح المدينة، وأصبحت رمزاً من الرموز التي أدخلتها المقدسيات لمقاومة التهويد.
هذا الجهد المبارك للمقدسيات تتماهى معه باقي نساء فلسطين، حتى إن فكرة قوافل الرباط القادمة من عرب الداخل قامت عليها النساء، وكثير ممن يأتون للرباط هن من النساء بصحبة أطفالهن، يأتين في كل وقت للرباط في الحرم الشريف وصد عدوان المستوطنين، وتعليم الأبناء دروساً حية في حب القدس والأقصى واستلهام القصة الحقيقية لهذه الأرض، وأيضاً للتسوق كلون من المساعدة في مقاومة الفقر الذي يفرضه الاحتلال على المدينة، كما ينتقين لأبنائهن مجسمات تمثل الأقصى وقبة الصخرة حتى تبقى القضية حية في وجدان هؤلاء الذين كان يظن الاحتلال أنه قام بتذويبهم، ويطمح لتذويب أبناء القدس مثلهم، لكن صفعة هؤلاء للاحتلال في الأحداث الأخيرة ورفعهم لعلم فلسطين دليل على فشله بعد كل هذه السنوات الطويلة.
فكيف ينجح في تذويب أبناء القدس والمقدسيات حارسات مجاهدات مرابطات للقضية؟