في ذروة الاعتداءات الصهيونية على الفلسطينيين في الأراضي المحتلة وغزة، التي سقط فيها قرابة 300 شهيد غالبيتهم من النساء والأطفال والعجائز، ارتفعت أصوات عربية تتماهى مع تلك الاعتداءات، وتندد بالمقاومة، وتستخف بصواريخها التي وصلت «تل أبيب»، وأحدثت تصدعات عميقة في نظرية الأمن «الإسرائيلية» المرتكزة على القبة الحديدية.
زيدان زعم أن تاريخ القدس ليس إسلامياً خالصاً ودعا لأن تكون عاصمة لجميع الأديان تحت إشراف الأمم المتحدة
في 16 مايو 2021م، خرجت صحيفة «الوطن» القاهرية بحوار مع د. يوسف زيدان الذي وصفته بالمفكر والأديب ليطرح جملة من الأفكار والمقولات المتكررة لتيار التطبيع العربي، أو ما يوصفون بـ»المتصهينين العرب» أو تيار «الليكود العربي»، وقال صراحة: «فماذا يحدث لو أعطى المسلمون لليهود 200 متر مربع من باحة المسجد الأقصى لبناء معبد يهودي يسمى هيكل سليمان»، وأشار زيدان إلى أنه لا يبالي بالاتهامات الموجَّهة له بالتطبيع، وأن الجعجعة لن تحل القضية الفلسطينية، زاعماً أن القدس تاريخها ليس إسلامياً خالصاً، داعياً إلى أن تكون القدس عاصمة لجميع الأديان، وأن تكون إدارتها تحت إشراف الأمم المتحدة، معتبراً أن «إسرائيل» بها عقلاء؛ لذا قد توافق على تدويل القدس، زاعماً أن مساعي الصهاينة لهدم المسجد الأقصى ما هي إلا أوهام مستقرة ومنتشرة بين العرب، ولم يفت زيدان أن يطالب بإنقاذ أرواح المتنازعين من الطرفين، كذلك كتب في حسابه على «فيسبوك» أن القدس وفلسطين ملكية على المشاع لليهود وغيرهم.
تصريحات قوبلت بسيل من الانتقاد والغضب، وكانت مؤسسة الأزهر أول الغاضبين على لسان وكيل الجامع الأزهر د. عباس شومان الذي أكد أن من ينكر إسلامية مدينة القدس خائن.
وبعد 3 أيام، كتب الليبي جبريل العبيدي، في صحيفة «الشرق الأوسط» مقالاً بعنوان «القضية الفلسطينية بين تطرفين»، واصفاً حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالتطرف، ومساوياً بينها وبين «الليكود الإسرائيلي».
“الليكود العربي”.. والمطبِّعين
مع حالة الصراع والصدام المتكرر بين المشروع الصهيوني والمقاومة الفلسطينية، يبرز تيار بين النخب الثقافية والإعلامية والسياسية في عدد من العواصم العربية، يبدي تعاطفاً وتفهماً للاعتداءات الصهيونية، ويصب جام غضبه على المقاومة، محملاً إياها مسؤولية الدماء والدمار، تيار تتمدد كلماته وأفكاره الخبيثة على عدد من صفحات الجرائد وفي البرامج الفضائية، وهنا تستعيد الذاكرة فقرة للكاتب الصهيوني «شاي جولدبيرغ» يقول فيها: «لاحظت أن نسبة العرب الموالين لـ»إسرائيل» تتضخم بصورة غير منطقية، أنا كيهودي عليَّ أن أوضح نقطة مهمة: أنت كعربي حين تخون أبناء شعبك بآراء عنصرية صهيونية، فنحن نحبك مباشرة، لكنه حب كحبنا للكلاب، صحيح أننا نكره العرب، لكننا في داخلنا نحترم أولئك الذين تمسكوا بما لديهم، وحافظوا على لغتهم وفكرهم».
يختلف تيار التطبيع العربي عن تيار الليكود العربي؛ فتيار التطبيع نشأ بعد معاهدة السلام المصرية – «الإسرائيلية» بعد العام 1979م، وكان هدفه الرئيس القبول بوجود الكيان الصهيوني، والتعامل معه، وهو تيار كان يتحرك على استحياء شديد، وبأفراد معدودين، وكان من يتجرأ على التطبيع يعُامل كالأجرب بين الأصحاء، ويعاني من عزلة ثقافية.
أما تيار «الليكود العربي»، فكانت بداية ظهوره مع العام 2006م عندما حسمت حركة «حماس» الموقف لصالحها في قطاع غزة في مواجهة السلطة الفلسطينية، وهو تيار يبرر الاعتداءات «الإسرائيلية»، ويخلق مناخاً من التعاطف مع الأهداف الصهيونية، ويزرع عداء للقضية الفلسطينية ومن يدافع عنها.
والحقيقة أن تيار «الليكود العربي» أدرك أن قوة المقاومة ليست في سلاحها فقط، ولكن في عمقها الشعبي والوجداني العربي، لذا سلك هؤلاء الليكوديون العرب الطريقَ الوعرَ لضرب المقاومة في العواصم العربية بالتوازي مع ضربها في الأراضي الفلسطينية.
كاتب صهيوني: أنت كعربي حين تخون شعبك بآراء عنصرية صهيونية فنحن نحبك مباشرة لكنه حب كحبنا للكلاب!
إستراتيجيات “الليكود العربي”
الواقع أن تحليل إستراتيجيات «الليكود العربي» خلال الـ15 عاماً الماضية، يكشف عن مجموعة من الخطوات التي لجأ إليها، لإيجاد حاضنة ثقافية متعاطفة ومتفهمة وغير معادية للمشروع الصهيوني، وإنهاء حالة التعاطف مع فلسطين قضية ومقاومة وشعباً، منها:
إفقاد الصراع لرمزيته: من قبل وصف عالم النفس الشهير «فرويد» أن أرض فلسطين مشحونة بالتاريخ، ومن الصعب أن يساهم ذلك في نجاح المشروع الصهيوني، ورغم ذلك فإن «الليكود العربي» يسعى لسلب المقاومة رمزيتها الدينية والتاريخية في صراعها مع المشروع الصهيوني، وتصوير الصراع على أنه خلاف وتنازع على الحدود، فلجأ هؤلاء إلى تنحية مركزية القدس عن الصراع، وإيجاد تفهم للرغبة الصهيونية في إنشاء هيكل سليمان داخل باحة المسجد الأقصى.
تفهم السياسة العدوانية الصهيونية: وهنا تتجلى الكارثة، إذ يبدي «الليكود العربي» تفهماً لدوافع «تل أبيب» بالقصف المتواصل للفلسطينيين، ومحاصرتهم، واغتيال قادتهم، وتدمير بناهم التحتية، واعتبار الردود الصهيونية بقصف المدنيين الفلسطينيين نوعاً من الرد على عمليات المقاومة.
التمييع: ويقوم «الليكود العربي» بتمييع فكرة العدو، والمقاومة، وإقناع الشعوب العربية بأن «إسرائيل» ليست عدواً، والمقاومة ليست خياراً، فيصبح «الإسرائيليون» هم أبناء العم، أما المقاومة فهي متطرفة ولا عقلانية، تضر بالفلسطينيين، وعملياتها لا جدوى لها، ووصف صواريخها بأنها ألعاب أطفال، واحتقار بطولاتها، فتضيع الحدود الفاصلة والمميزة لأطراف الصراع، وتصبح العقول مهيأة للقبول بالتخلي عن القضية الفلسطينية.
“أنسنة” الاحتلال الصهيوني: هناك مساحات يمهدها «الليكود العربي» للتعاطف مع المآسي الصهيونية، لكسر الحواجز النفسية تجاه الصهاينة، وهذه «الأنسنة» تزيل فكرة العداء من النفوس، وإقناع الشعوب العربية أن «الإسرائيليين» بشر يحبون السلام ويرغبون أن ينعموا به، وإيجاد تبريرات سياسية وأخلاقية لوجود «إسرائيل»، من خلال إقناع الجماهير العربية أن الاعتداءات «الإسرائيلية» سببها عمليات المقاومة، فـ»إسرائيل» غير عدوانية، وبلغ القبح أن تمنى أحدهم أن يسدد الله ضربات «إسرائيل» على غزة.
التبعية لإيران: تتكرر مساعي «الليكود العربي» لاتهام المقاومة بأنها جزء من المشروع الإيراني للنفاذ للمنطقة، وقاعدة لتصدير الطائفية، ولذلك لإضعاف التأييد العربي خاصة الخليجي للمقاومة، لذا تكررت مصطلحات «حماس الفارسية» أو «حماس بندقية إيرانية».
شيطنة المقاومة: من خلال اتهامها المتواصل بالإرهاب، وربط جزء من معاناة بعض المواطنين في البلدان العربية بالفلسطينيين، مثل اتهام المقاومة بأنها وراء عمليات تهريب السلاح في سيناء، أو أنها من أسباب مشكلات المواطن الأمنية والمعيشية في لبنان، ولعل هذا يعيد التذكير بما نبه عليه المفكر عبدالوهاب المسيري بـ»اليهودي الوظيفي»، الذي ينتمي إلى المجتمع العربي في ظاهره، لكنه يقوم بالدور الوظيفي لليهودي، فقال: «من الآن فصاعداً سنجد يهوداً في ثياب مسلمين، اليهودي الوظيفي مسلم يصلي معنا العشاء في المسجد، لكنه يقوم بنفس الدور الذي يقوم به الجنرال اليهودي».
رفض الماضي وادعاء العقلانية: يتستر «الليكود العربي» وراء العقلانية، والنظر للمستقبل، كمبرر لمطالبة الشعوب لتنزع تأييدها ومساندتها المقاومة، فيزعم هؤلاء أن مشروع المقاومة ليس له مكان في المستقبل، وأن على الشعوب أن تنفض يدها منه مبكراً، وأن السبيل لذلك نسيان الماضي ومآسيه، على اعتبار أن هذا يكفل الانفتاح على المستقبل المزدهر، وهي إستراتيجية تتقاطع مع ما فعله المستوطنون الأوروبيون تجاه الهنود الحمر في القارة الأمريكية الشمالية، التي انتهت بتذويب الأمم الهندية، والمدهش أن الدولة اليهودية في فلسطين ما هي إلا مشروع منطلق من الماضي السحيق.
وقد خصصت وزارة الخارجية «الإسرائيلية» موقعاً رسمياً هو «إسرائيل بالعربي» لنشر مقالات هؤلاء الليكوديين العرب الذين يزيد عددهم على 30 كاتباً من صحف عربية شهيرة.
لكن في انتفاضة الأقصى الحالية (2021م) كان «الليكود العربي» أخفت صوتاً، إذ كانت فجاجة العدوان وعنفه كافية بأن تحبط إستراتيجياتهم لتفريغ القضية الفلسطينية من محتواها، فلم يستطع التغطية على الجرائم الصهيونية، إذ كانت الأبراج السكنية تُقصف وتُهدم على ساكنيها أمام الكاميرات، والصور توثِّق سقوط الضحايا، وصرخات المفجوعين بفقدان ذويهم وبيوتهم أعلى صوتاً من شغب أصوات الليكوديين العرب.