كان الدكتور عبد الوهاب المسيري –رحمه الله- نموذجا للمثقف الملتزم بقضايا أمته، استشرف في كتاباته ملامح المشروع الصهيوني، وأخذ في البحث عن نموذج تفسيري مركب يجمع أشتات ذلك الكيان، لم يعش في برج عال ينغلق فيه على نفسه ويقدم المعطيات المقولبة حقائق بدهية.
كان يمتلك رؤية منهجية تجذرت في أطروحات الفكر الغربي، وهو يعد امتدادا للمشروع القومي في مجابهة الاستلاب الحضاري الذي يهدد العرب، ربما تلحظ ذلك في كتابات الرواد الأوائل: حامد ربيع وجمال حمدان وعجاج نويهض وحسن ظاظا ورشاد عبد الله الشامي، حتى جاءت كتاباته جامعة للفكر المقاوم، الذي تبنى مقولة: “صراعنا مع اليهود صراع وجود وليس صراع حدود”، تلك المقولة التي كشفت أبعاد المشروع الصهيوني.
من ثم نلحظ في كتاباته البعد التأصيلي للمعرفة، وربطها بالواقع المعيش لقضايا الأمة، وكان انخراطه في الشأن العام تماهيا مع مشروعه المقاوم، فاشترك في تأسيس حركة “كفاية”، لكنه يرى أن قضية فلسطين هي محور المقاومة ومشروع المواجهة الحقيقية للأمة.
تفتقر جامعاتنا للباحثين الذين يمتلكون مشروعا متكاملا لا ينفصل عن واقعه، وقد برهنت الموسوعة الصهيونية على مقدرة باحث على مجابهة مشروع إحلالي استيطاني لا ينتهي نهمه وافتراسه عند جزء من الوطن العربي، مستهدفا البشر والحجر والنهر بل يكون قاعدة لاستنزاف الثروة ومحو التاريخ وتزوير الجغرافيا.
هدف إلى تشريح الأيدلوجيا الصهيونية، وقدم تفسيرات مغايرة لما تتبناه حتى يقوم العقل العربي بفهم وسائلها والتنبه لمخاطرها.
نموذج تركيبي
كانت بدايته مع الأدب الإنجليزي ثم امتدت منهجيته إلى النموذج التركيبي وما وراء العقلية المتصهينة التي تفرد هيمنتها على دوائر صناعة القرار في عواصم الغرب.
على حد زعمي لم يقدم باحث أطروحة تتناول منجز عبد الوهاب المسيري في محاولة تركيبية تستهدف إيقاظ العقل العربي وإخراجه من حالة الموت السريري التي لازمته طيلة قرنين من الزمان.
لقد كانت حملة نابليون بونابرت على مصر والشام تستهدف تغريب العقل والتمهيد للوجود اليهودي بعدما فشلت الحملات الصليبية، إذ تعد الصهيونية تالية لما استقر في المنزع الاستعماري من استنبات كيان في بيئة مغايرة، وتوفير كل عوامل البقاء له؛ ومؤكد أن نجاح تلك التجربة رهين بإنهاك المحيط العربي واختلاق قضايا ونزاعات إثنية وطائفية تصرف دفة السفينة إلى وجهة مناقضة.
لقد تقزمت المؤسسات البحثية وتقلصت مواردها، فهذه دوائر البحث الاستشراقي واللغوي ومؤسسات البحث الفكري انشغلت بقضايا أخرى تبعا لتغير موازين وتوجهات الذين يمسكون بمقاليد الثروة.
فتعد موسوعته عن الصهيونية مثالا كبيرا ورائدا يجب أن تحظى بعناية الباحثين ومراكز الفكر الاستراتيجي، حتى إذا جاء اللاحقون أدركوا عظمة الرواد.
لذلك تأتي مشروعية الفكر المقاوم الذي يتناول قضايا الوجود والهوية متحملا أعباء المقاومة التي تستلزم السلاح الفكري سواء بسواء مع القوة العسكرية التي تسهر على حدود الوطن.
إننا نتعامى حين لا نكتب عن الرواد الذين غذوا عقولنا، وبصرونا بقضايا الوجود.