د. مصطفى عطية جمعة:
ولِدت السينما الفلسطينية عن حاجة ضرورية، لمواكبة النضال الفلسطيني الممتد منذ أكثر من قرن من الزمان؛ فالقضية الفلسطينية عانت من التغييب الإعلامي، والتجاهل السينمائي، في مقابل دعاية هائلة قامت بها الصهيونية العالمية، بترويج مقولاتها وأسطورتها المعنونة بـ«أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض»، في متاجرة سياسية فاضحة، بأكاذيب تاريخية، مستندة إلى ركيزتين؛ أن فلسطين ملك أبدي لبني إسرائيل حسب وعد قطعه «يهوه» رب الجنود لإبراهيم وإسحق ويعقوب، وأن اليهود شعب الله المختار لما يمتلكه من مزايا عن سائر الشعوب(1). وقد ترتب على ذلك فكر عنصري مغلق تجاه الشعوب الأخرى، واستعلاء يهودي وصلف وغرور، وانعكس في الأفلام السينمائية التي روّجت للدعاية الصهيونية ودولة «إسرائيل».
سادت سردية تاريخية متخيَّلة الدراسات التاريخية العالمية، مروّجةً لشعارات الوطن القومي لليهود، عبر العودة إلى صحراء قاحلة، وأرض خالية، لحماية المقدسات اليهودية والمسيحية، وتعمير أرض فلسطين الخالية بالتكنولوجيا الأوروبية، مع تجاهل تام لأي وجود للشعب الفلسطيني وتاريخه الممتد على أرض فلسطين منذ آلاف السنين، وتم تصوير دولة «إسرائيل» على أنها جزء من العالم المتحضر الغربي، وأنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط(2).
وهي نفس المقولة التي رددها “بنيامين نتنياهو” (رئيس حكومة الكيان الصهيوني)، في 19/5/2021م، في لقائه مع أكثر من 70 سفيراً ودبلوماسياً غربياً في “تل أبيب”، إبان العدوان على غزة، وقال: إن هزيمة “إسرائيل” في هذا العدوان هو هزيمة للغرب كله(3)، باعتراف صريح أن “إسرائيل” امتداد للمشروع الاستعماري الغربي، وأن استمرارها مرهون بدعم الغرب في وجهه الكولونيالي الأسود.
تلك هي الطروحات التي عبرت عنها السينما المؤيدة للصهيونية وتكرست بشكل معمق في الأفلام العالمية، خاصة المنتجة بعد قيام دولة الكيان الصهيوني العام 1948م، مثل فيلم “السيف والصحراء” (1949م)، المروّج لشعار “أرض بلا شعب”، على الرغم من أن غالبية من كانوا يعيشون -وقتئذ- على أرض فلسطين هم الفلسطينيون، ونفس الأمر في فيلمي “سقوط الظل العملاق” (1966م)، و”جوديث” (1966م).
عدد الأفلام «الإسرائيلية» بلغ عام 1964م وحده 22 فيلماً وميزانية الأفلام التسجيلية وصلت نحو مليون دولار سنوياً
كما أُنتِجَت أفلام وثائقية موجهة للمشاهد الأمريكي، ساهمت في جمع تبرعات لصالح الاحتلال الصهيوني، وبلغ عدد الأفلام الصهيونية خلال الفترة من عام 1948 – 1960م نحو 30 فيلماً، بينما بلغ عدد الأفلام في عام 1964م وحده 22 فيلماً، فيما وصلت ميزانية الأفلام التسجيلية “الإسرائيلية” ما يقارب مليون دولار سنوياً.
وفي الفترة نفسها، تسابقت أستوديوهات هوليوود لإنتاج أفلام مناصرة للصهيونية، بحكم سيطرة رأس المال اليهودي عليها، وخضوع كل نجوم السينما العالمية لنفوذه الخاص، وامتدت السيطرة أيضاً إلى السينما الأوروبية؛ ليبلغ عدد الأفلام المناصرة للصهيونية 60 فيلماً روائياً، تمتدح أخلاق اليهود الحميدة وإنسانيتهم، والسخرية من هزيمة العرب، وتخلفهم الحضاري والتقني.
وبعد العام 1967م، واستغلالاً للانتصار السريع للصهاينة، ظهرت سينما مكشوفة أيديولوجياً، بدعائية بمنحى عنصري فج، فتم إنتاج أكثر من 100 فيلم، روّجت لأسطورة الجيش الذي لا يقهر، و”إسرائيل” بلد الحضارة(4).
وكانت المحصلة كما رصدها الناقد السينمائي جاك شاهين أن رواد السينما في أمريكا خاصة، والغرب عامة، يجهلون تاريخ الشعب الفلسطيني ومحنته، ويرون أن الفلسطينيين هم أولئك الإرهابيون الكريهون الذين يظهرون على شاشة السينما، واستمر هذا المنحى في العقود التالية، فعلى سبيل المثال؛ فإن أكثر من نصف الأفلام التي عُرضت خلال حقبة الثمانينيات والتسعينيات، لم يتم تقديم الفلسطينيين بوصفهم ضحايا أبرياء للقمع الصهيوني، ولم تُظهِر هذه الأفلام العسكر والمستوطنين “الإسرائيليين” وهم يقتلعون أشجار الزيتون، أو تصوير مخيمات اللاجئين الفلسطينيين، بل قُدِّم “الإسرائيلي” على أنه إنسان متحضر مهذب عاقل وراقٍ(5).
السينما الفلسطينية استهدفت تقديم الصورة المغيَّبة عن أرض فلسطين وكفاح شعبها ومأساته المعيشية
السينما المدافعة
إزاء كل هذا الزخم، كان لا بد من نشأة السينما الفلسطينية، أو بالأدق السينما المدافعة عن الحق الفلسطيني، والمقدسات الدينية، فلم تقتصر على أبناء فلسطين وحدهم، وإنما ساهم فنانون عرب من أقطار عربية مختلفة، ناهيك عن عرب المهجر والمسلمين هناك، بجانب فنانين من الغرب، سعوا لكشف الحقيقة ومواجهة الزيف.
فصرنا أمام سينما تتخذ فلسطين والقدس موضوعاً لها، ويساهم في إنتاجها كل مؤيد للقضية؛ لذا فإن التعريف المعتمد للسينما الفلسطينية بأنها سينما انتماء نضالي وليس جغرافياً، وهي المتضمنة لكل الأفلام المدافعة عن الحق الفلسطيني، التي تنقسم إلى ثلاث فئات؛ إنتاج المنظمات الفلسطينية، وإنتاج الدول العربية، وإنتاج أصدقاء الثورة الفلسطينية في العالم(6).
وتنوعت الأفلام ما بين وثائقية ودرامية، وقصيرة وطويلة، خاصة تلك التي رافقت صعود النضال الفلسطيني في سنوات الستينيات، واستهدفت تقديم الصورة المغيَّبة عن أرض فلسطين، وكفاح الشعب الفلسطيني، ومأساته المعيشية داخل الوطن وخارجه، وقد بدأت بأفلام توثيقية لشهداء الثورة الفلسطينية في العام 1967م، ثم الفيلم التسجيلي “لا للحل السلمي” (1967م)، ومدته 20 دقيقة، الذي واكب حركة الكفاح المسلح لتحرير فلسطين التي بدأت العام 1965م، بعد معركة الكرامة الشهيرة، وفي تصوير تفاعل الجماهير الثورية العربية مع الثورة الفلسطينية، وكما هو واضح من عنوانه، فإن الفيلم طرح شعار الحل العسكري، رفضاً لأي حلول سلمية، وكأنه يستبق بالتحذير ما حدث بعد 10 سنوات، في معاهدة “كامب ديفيد” (1977م).
وقد أنتج هذا الفيلم مجموعة من السينمائيين الفلسطينيين، أبرزهم صلاح أبو هنود، وهاني جوهرية، وسلافة مرسال، هذه المجموعة التي أنتجت أيضاً فيلم “بالروح بالدم”، بعد الخروج الفلسطيني من الأردن عاميّ 1970 و1971م، بإشراف من المخرج الفلسطيني مصطفى أبو علي، وفيه عرض لأحداث سبتمبر الدامي عام 1969م، بالاقتتال بين المنظمات الفلسطينية وجيش الأردن، عبر مشاهد تسجيلية حيّة، متمازجة مع مشاهد تمثيلية، وبإشارات ضمنية إلى التحالف بين الإمبريالية والصهيونية.
وقد تعاون المخرج مصطفى أبو علي مع وحدة أفلام فلسطين التابعة لمركز الأبحاث الفلسطينية في بيروت، وكانت نتاجاً لتجارب سينما التنظيمات الفلسطينية.
وجاء فيلم “مشاهد من الاحتلال في غزة” (1973م) لتصوير واقع قطاع غزة، بعدما سقط في قبضة الاحتلال الصهيوني، وقد سبقه فيلم “العرقوب” الروائي (1972م) لمصطفى أبو علي، الذي أخرج بعده فيلم “عدوان صهيوني” (1973م)، وأعقبه بفيلم “ليس لهم وجود” (1974م)، ثم “فلسطين في العين” (1977م)، وترافق معه المخرج سمير نمر بإخراج عدة أفلام، أبرزها “الإرهاب الصهيوني”، و”ليلة فلسطينية” (1973م)، و”كفر شويا” (1975م)، و”الحرب في لبنان” (1977م).
لقد كان الهمُّ الأساسي في هذه الأفلام تقديم الصورة الحقيقية للواقع الفلسطيني، ومأساة اللاجئين داخل فلسطين، وفي المخيمات الفلسطينية في لبنان وغيرها.
وجاءت تقنيتها الفنية جيدة في مجملها، على مستوى الإخراج والتصوير والتمثيل خاصة مع وجود تمويل من منظمة التحرير الفلسطينية، التي سعت إلى إنتاج سينمائي فلسطيني يواكب الحدث ويؤرخ للقضية ونضال الشعب سينمائياً، مثل الكفاح الفلسطيني في جنوب لبنان ومعاركه مع الكيان الصهيوني.
وظهرت أيضاً أفلام استلهمت الروايات الأدبية الفلسطينية، مثل تجربة المخرج العراقي قاسم حَوَل، الذي أخرج أولاً عدداً من الأفلام التسجيلية عن الثورة الفلسطينية، لصالح الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ثم أخرج فيلمه “عائد إلى حيفا” (1982م) عن رواية بنفس العنوان للروائي الفلسطيني غسّان كنفاني.
هو ما حدث أيضاً مع تجربة المخرج السوري محمد ملص، بإنتاج المؤسسة العامة للسينما في سورية، في فيلمين روائيين، وهما “أحلام المدينة” (1983م)، و”الليل” (1992م)، ونرى أنهما مثَّلا تطوراً بالغاً في مسيرة السينما الفلسطينية، لأنهما لم يكونا بخطاب سينمائي مباشر، وإنما كانا في لغة سينمائية بليغة، وسردية راقية، مستلهمة الأدب الروائي، ومصاغة في سيناريوهات محكمة، وبإخراج متقن.
وهو ما ينطبق أيضاً على فيلم “ناجي العلي” (1992م)، من إنتاج وبطولة الفنان نور الشريف، ويتناول حياة رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي، الذي قتل في لندن، عام 1987م، ولم تُعرَف الجهة التي قتلته، وإن كانت الاتهامات تشير إلى أياد فلسطينية.
بعد اتفاقيات أوسلو ندرت الأفلام الفلسطينية مع تراجع الخطاب الثوري لصالح شعارات السلام
بعد “أوسلو”
وتكمن مشكلة السينما الفلسطينية في عدم وجود خطة مستمرة، بميزانية ثابتة لكي تستمر بهذا المستوى الراقي على قلّة ما أُنتِج من أفلام، فبعد اتفاقيات أوسلو عام 1993م، ندرت الأفلام الفلسطينية والعربية المنتَجة، مع انضمام وحدة السينما بمنظمة التحرير الفلسطينية، إلى «تلفزيون فلسطين» الناشئ، وتراجع الخطاب الثوري الفلسطيني، لصالح شعارات السلام والتعايش التي ملأت الخطاب السياسي العربي.
وهو ما يفسر تراجع الإنتاج السينمائي خلال التسعينيات وغياب الدعم المادي، ومع مطلع القرن الحادي والعشرين؛ ما دفع المخرجين الفلسطينيين إلى أشكال أخرى من التمويل، منها التمويل الأوروبي، الذي غالباً ما تكون له أجندته الخاصة، المتماهية بشكل أو بآخر مع رؤية الاتحاد الأوروبي إلى القضية الفلسطينية، التي قبلت الوجود الفلسطيني، وانحازت في خطابها السياسي إلى حل الدولتين، الذي لم يتم إلى يومنا، مع شعارات التعايش والتطبيع مع العالم العربي.
والمثال على ذلك فيلم «الجنة الآن» (Paradise Now) (2005م)، وقد جمع بين الدراما والإثارة، حيث دارت أحداثه حول ليلتين أخيرتين في حياة شابين فلسطينيين يقرران القيام بعملية استشهادية بهدف لفت انتباه العالم للقضية الفلسطينية ومحاولات الصهاينة المستمرة لاستئصال الهوية الفلسطينية، وقد حقق الفيلم نجاحاً جيداً، وفاز بجوائز “جولدن جلوب” ومهرجان برلين السينمائي وجائزة الفيلم الأوروبي، ورشّح لجائزة أوسكار أفضل فيلم أجنبي، وطرح الفيلم قضية مفادها أن تغييب الهوية الفلسطينية سبب للمحاولة الاستشهادية، وليس الاحتلال الصهيوني في حد ذاته، وبعبارة أخرى: تغييب مفهوم الاحتلال وإحياء مفهوم التعايش، والاعتراف بالهوية الفلسطينية، ومع ذلك تعرّض لهجوم في الإعلام الغربي، باتهام المخرج بتبرير العمليات “الانتحارية” ومنحها طابعاً إنسانياً، وقبولاً مجتمعياً.
فالتركيز على القضية الفلسطينية بوصفها مشكلة إنسانية وقضية تعايش ليس حلاً في حد ذاته، وإنما هو مجرد شعار للاستهلاك السياسي، ولا وجود له واقعياً، وهو ما تناوله فيلم “إن شاء الله” (Inch’Allah) (2012م)، وهو إنتاج كندي، ويحكي قصة طبيبة كندية تعمل في عيادة طبية، تابعة للهلال الأحمر الفلسطيني، بأحد مخيمات اللاجئين بالضفة الغربية؛ حيث تتعرف إلى امرأتين؛ الأولى فلسطينية زوجها مسجون قهراً في السجون “الإسرائيلية”، والثانية صديقتها اليهودية المُجنّدة في جيش الاحتلال “الإسرائيلي”، وتعرض أحداث الفيلم مشاهد العدوانية والهمجية شبه اليومية من الاحتلال الصهيوني تجاه المدنيين الفلسطينيين العزّل؛ فتتغير نظرة الطبيبة مع الوقت، وهي التي تبنتها مسبقاً بخصوص القضية الفلسطينية، وتنتصر لإمكانية التعايش، حيث اكتشفت الطبيبة الوجه الأسود للمحتل، والأوضاع المزرية للفلسطينيين.
ولم يغب النضال المسلح عن خيال صنّاع السينما، على قناعة منهم أن فلسطين لن تحرر بشعارات القانون الدولي، وظهر ذلك في فيلم “لمَّا شفتك” (When I Saw You) (2012م)، وهو إنتاج فلسطيني أردني مشترك، من إخراج آن ماري جاسر، ويناقش مشكلة لاجئي فلسطين إلى مخيمات الأردن منذ عام 1967م، حيث رحل الصبي “طارق” ذو الأعوام الـ11 مع أمه، ليعيش في ضنك ومأساة، متمسكاً بالصبر، على أمل انضمامه إلى الفدائيين، عندما يكبر، وينام ويحلم هو وأمه بحق العودة يوماً إلى الوطن المغتصب.
وختاماً نقول: إنه على الرغم من قلة أفلام السينما الفلسطينية في مجمل إنتاجها، فإنها عبرت عن القضية ونضال الشعب ومأساة الواقع الحياتي في الداخل، واللاجئين في الخارج وأيضاً فلسطينيي الشتات، ولذا نقرر أننا في حاجة لمشاهدة السينما الفلسطينية، التي تعاني من التجاهل الإعلامي، والتغييب في القنوات الفضائية، لصالح أفلام الترفيه والكوميديا، فلا شك أن فيلماً واحداً سيغني عن عشرات المقالات والكتب؛ فالصورة أبلغ في التعبير، وأعظم في التأثير، وأشد في التنوير.
______________________________________________________________________
(1) من يهوه إلى شارون: الأساطير المؤسسة للإرهاب الصهيوني، محمد راتب الحلاق، منظمة الطليعة العربية، تونس، 2010.
(2) اختلاق إسرائيل القديمة: إسكات التاريخ الفلسطيني، كيث وايتلام، ترجمة: سحر الهنيدي، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1999، ص48، 49.
(3) العدوان على غزة.. نتنياهو يستنجد بالدبلوماسيين الأجانب بحثاً عن صورة انتصار، على موقع https://www.aljazeera.net/ 19/5/2021.
(4) نشأة السينما الصهيونية ووظائفها، (تقرير) المركز الفلسطيني للإعلام، 6/10/2007، https://palinfo.com/76297
(5) الصورة الشريرة للعرب في السينما الأمريكية، جاك شاهين، ترجمة: خيرية البشلاوي، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2013، ج1، ص58، 59.
(6) السينما في الوطن العربي، جان الكسان، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1982، ص142، 143.