استطاع الكيان الصهيوني المحتل على مدار عقود ماضية أن يتحكم في القناعات لدى بعض الذين كانوا ضمن سلطان الدولة العثمانية باعتبارها دولة الخلافة، التي كانوا يعبرون عنها بـ»الدولة المريضة»، ولا يشك أحد في حجم التخطيط والأناة والصبر في تعاطي اليهود مع مخططاتهم، حتى تحولت القضية والمأساة من مأساة أمة تعيش من طنجة إلى مانيلا، إلى مجموعة الأعضاء في مجلس الجامعة العربية، ثم تحولت إلى قضية فلسطين، ثم ها هي في تحولها الأخير إلى قضية قطاع غزة، وبعدها سيكون الصراع فقط حول الجزء الذي يقع فيه المسجد!
استبان أن وكلاء الصهيونية بالمئات داخل مراكز التوجيه وموجودون في مناطق عدة للتأثير
لقد استبان لدينا أن وكلاء الصهيونية بالمئات داخل مراكز التوجيه والثقافة، وأنهم موجودون في مناطق عدة للتأثير، فما إن اشتعل فتيل الحرب في الأراضي المقدسة، إلا وكان طبيعياً أن نجد قوة غاشمة مجرمة تأتي على ما استطاعت الإتيان عليه، لم يكن غريباً أن تشن الصهيونية حربها في اتجاه مواقع التواصل، ويصير حذف الحسابات المتضامنة مع المسجد ورجاله وأهل الرباط حوله هو السمة لمواقع نذرت نفسها في خدمتها.
الجديد في الأمر هو بروز طائفة من المثقفين، أو ممن رفعتهم آلة الرفع التي لا نعرف كيف ترفع، حيث دخلوا في وسط شدة الهدم والقصف من الكيان الغادر لقلب المعركة، تحركوا في لحظة لا نعرف كيف اختاروها، فلم تستثر حفيظتهم للمسجد، ولم تقلقهم جرافات العدو في الشيخ جراح، ولم يزعجهم منع المصلين ومنع الأذان، فكل هذا سائغ لا مشكلة فيه؛ أما مشكلتهم فكانت في اتخاذ موقف الدفاع عن المقدسات من جانب المقدسيين.
حسابات مضللة
إن أهم ما تتغنى به الأنظمة الحالية هو الوطن، وحب الوطن، والموت دفاعاً عن الوطن، والانصهار الدائم في قضايا الوطن، لكن حين يكون هذا الوطن هو فلسطين، هو الأرض المقدسة، هو المسجد الأقصى، فالدفاع هنا رعونة وحماقة، فتارة يخرج علينا من ينفي عروبة القدس، وتارة ينفي إسلاميتها، وتارة يرى أن المسجد لا حقيقة له ولا قيمة، وغيره يخرج ليحسب أعداد القتلى في الفريقين، ويعقد مقارنة بين قوة وقوة، ثم يرى أن الذين استعملوا ما أمكنهم من القوة في الطرف الأحمق، فهو يرى أنه كان يجب ترك المستوطنين يغلقون المسجد ويعتلون أسواره، وكان من المفروض أن تسلم لهم بيوت الشيخ جراح بأثاثها الموجود فيه، وكل هذا بحساب القوة والقوة المقابلة.
لقد علمتنا تجارب المسلمين طوال التاريخ أنهم كانوا هم الأقل في معظم المعارك التي خاضوها، بل قدَّم لنا القرآن نموذجاً في الانصراف عن معنى الجهاد الحقيقي إلى الاعتصام والارتكان إلى القوة العددية، فكانت يوم حنين درساً لكل من يظن أن القوة وحدها هي الناصرة، وأن النصر بالعدد والعتاد، حسابات النصر في الإسلام هي حسابات القيام بالحق، وحساب تنفيذ أوامر الله تعالى، التي منها الإعداد الجيد، ودراسة الآخر، لكن إذا هجم العدو على بلدة مسلمة فلا مجال ولا كلام، فالجهاد هو واجب الوقت، وفريضة الزمن، ودعم من كانوا كذلك هو الحقيق بكل من نطق شهادة الحق.
لقد غدا المسجد والأرض المباركة تشبه تقسيم الناس إلى فريقين؛ فريق الحق وهو الداعم الناصر لقضية المسلمين ضد العدو الغاصب الذي أنبتته قوى الشر، وفريق المخذِّلين، الذين يتحدثون تارة عن فارق القوة، وتارة عن انعدام الأثر للدفع، وتارة عن تاريخية المسجد وتاريخية قضية الإسلام فيه، ويطعنون بكل ما استطاعوا الطعن وتزييف التاريخ لصالح من يعملون لحسابهم.
لم يكن غريباً أن تشن الصهيونية حربها باتجاه مواقع التواصل حتى يتم حذف الحسابات المتضامنة مع أهل الرباط
رائحة الماسونية
إنك تشم رائحة الماسونية في أشخاص تحركوا في وقت ما يقومون بدور «خذّل عنا»، لكن التخذيل هو عن الغاصبين ضد أصحاب الحق، وإدخال الوهن في صفوف الداعمين.
لقد أصبحت قضية القدس والديار المباركة توضع في مساق هذه الوصية من سفيان الثوري إلى شعيب بن حرب حيث قال له: «يا شعيب بن حرب، لا ينفعك ما كتبت لك، حتى ترى المسح على الخفين دون خلعهما، أعدل عندك من غسل قدميك.. يا شعيب بن حرب، ولا ينفعك ما كتبت حتى يكون إخفاء بسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة أفضل عندك من أن تجهر بهما»(1).
وهكذا يورد اللالكائي هذه الوصية التي تتعجب من مفرداتها، إذ كيف يجعل مسائل من التشريع ضمن أصول السُّنة التي يجب التمسك بها، ويجعلها من معاقد الولاء؟!
إن الأمر حين يبرز له أناس ينكرون الواضحات، ويشغبون على المسلّمات، تصير وقتها بعض المسائل تكافئ العقيدة اللازمة، وتوازي اليقين الذي لا يجوز فيه الشك.
ويمكنك تقسيم الناس على ضوئه إلى قسمين، المخلصين والمرجفين في المدينة.
إن قضية القدس اليوم هي قضية كل مسلم فوق ظهر البسيطة، وإذا بدا له أنها قضية فرعية، أو أنه يمكنه ألا ينظر لها أو يتفاعل معها، فقد ركب مركب النقص، وذهب في هوة لا مخلص منها، إلا أن يعود أو يؤوب من قريب.
إنك لتعجب أن يكون الإقرار بمسح الخفين في محله من السُّنة، فإذا كان هذا أمراً تشريعياً فقهياً، فقد أخرجه سفيان رضي الله عنه من الفقه الأصغر للفقه الأكبر، لما كان الناتج هو إنكار سُنة ثابتة، وتقديم العقل الناقص على نص ثابت لا مطعن فيه.
وهكذا تصير القدس ويصير الدفاع عنها، ومساندة المرابطين حول الأقصى قضية لا تقبل المين، وكل من خذل المجاهدين، أو طعن في جهادهم فإيمانه فيه دخن، وقلبه فيه رين وعطب، وفي الحديث: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» (متفق عليه).
فمن لا يسعه قول الخير، فيسعه السكوت عن الشر، ومن ركب مركب قول الشر في معركة لا مين فيها، فإننا نظن أن الماسونية قد سيّرته من أنصارها، والأندية المشبوهة قد جعلته في كنانتها تقذف به وقتما تريد.
لقد كشفت معركة المسجد الأخيرة أن ابن العلقمي الفكرة لم يمت، وأن القذيفة أتتنا من منطقة الأمان، فالذين يلبسون ثيابنا، ويتحدثون لغتنا، ويصلون إلى قبلتنا هم الذين يسخرون ممن يبذلون الوسع، وينفقون ما استطاعوا من النفقة، فكأنهم يريدون منهم أن يدخلوا قفص الجزار، وكلما ذُبح منهم واحد خنس الباقون، وجلسوا ينتظرون المصير المحتوم، وعندهم أن من قبل الذل وعاش أياماً، خير ممن دفع وخسر الأيام على وجه الحياة، وما هذا إلا من الحرص على الحياة التي ذم الله أهل الحرص عليها وعدها من مثالبهم، لكنها نبتت فيهم، وأنبتوها في عملائهم بالوكالة ممن اتخذوه بين المسلمين ليخذل عنهم، ومرتبتهم في هذا لا ترتفع عن مرتبة الخفاف التي صدرنا بها.
________________________________________________________________
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السُّنة والجماعة (1/ 171).