المسجد الأقصى خلَّد الله تعالى اسمه في القرآن الكريم، وجعله القبلة الأولى للمسلمين، كما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديثه وبيَّن فضله، وعرفه صحابته الكرام، وقد جعله الله تعالى مباركاً وبارك حوله.
وزاده الله عز وجل شرفاً وفخراً حين أسرى بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم إليه، وجعله مُصَلى له ولأنبيائه في هذه الرحلة المباركة؛ رحلة الإسراء، وكان معراجه منه إلى السماوات العُلا.
وقد جعله الله تعالى مسجداً مباركاً في الأرض المباركة التي كانت مهجَر إبراهيم عليه السلام خليل الله، وعاش في أكنافها جمع من الأنبياء، منهم إسحاق، ويعقوب، وداود، وسليمان، وزكريا، ويحيى، وعيسى، عليهم الصلاة والسلام، وكذلك السيدة مريم العذراء عليها السلام.
وجعله محل اهتمام المسلمين جميعاً في كل زمان، ينال حبهم، ويقاتلون للدفاع عنه، فقد فتحه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وطـهَّره صلاح الدين من الصليبيين المحتلين.
وهو أحد المساجد التي تُشد إليها الرحال، وتحِنُّ لرؤيته النفوس، وتشتاق إليه الأرواح، وتهفو للقرب منه القلوب. إليه كان الإسراء ومنه حصل المعراج:
فقد ذكر الله تعالى المسجد الأقصى صراحة في كتابه الكريم فقال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء: 1)، قال السعدي: «أَسْرَى بِعَبْدِهِ» ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم «مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ» الذي هو أجلّ المساجد على الإطلاق «إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى» الذي هو من المساجد الفاضلة وهو محل الأنبياء.
ويصف النبي صلى الله عليه وسلم ذلك فيقول: «أُتِيتُ بالبُراقِ، وهو دابةٌ أبيضُ طويلٌ، يضعُ حافرَه عند مُنتهى طرفِه فلم نزايلْ ظهرَه أنا وجبريلُ حتى أتيتُ بيتَ المقدسِ، ففُتِحتْ لي أبوابُ السماءِ، ورأيتُ الجنَّةَ والنَّارَ» (صحيح الجامع)، ويقول: «لما انتهينا إلى بيتِ المقدسِ؛ قال جبريلُ بإصبعِه فخرق به الحَجر، وشدَّ به البُراق» (صحيح الترمذي).
وذكر الطبري قول قتادة: إنه أسري بنبي الله عشاء من مكة إلى بيت المقدس، فصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فيه، فأراه الله من آياته وأمره بما شاء ليلة أسري به، ثم أصبح بمكة (تفسير الطبري)، وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم لقريش كما قال: «لما كذبتني قريش قمت في الحِجر فجلى الله لي بيت المقدس، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه» (رواه البخاري).
ثاني مسجد وضع في الأرض بعد المسجد الحرام:
فعن أبي ذر، قال: قلت: يا رسول الله، أي مسجد وضع في الأرض أول؟ قال: «المسجد الحرام»، قلت: ثم أي؟ قال: «المسجد الأقصى»، قلت: كم بينهما؟ قال: «أربعون سنة» (رواه مسلم).
قبلة المسلمين الأولى:
فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: «صلينا مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر، أو سبعة عشر شهراً، ثم صرفه نحو القبلة» (رواه البخاري).
إليه تُشد الرحال:
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، ومسجد الأقصى» (رواه البخاري)، واختِصاصُ هذه الثَّلاثةِ بالأفضليَّةِ؛ لأنَّ الأوَّلَ فيه حَجُّ الناسِ وقِبلتُهم أحياءً وأمواتاً، والثاني أُسِّسَ على التَّقوى وبَناهُ خَيرُ البَريَّةِ، زادَهُ اللهُ شَرَفاً، والثالثُ قِبلةُ الأُمَمِ السالفةِ (الدرر السنية).
نِعم المُصلى:
فعن أبي ذر رضي الله عنه، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة في بيت المقدس أفضل أو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى، هو أرض المحشر والمنشر..» (صحيح الترغيب).
مسجد مبارك في أرض مباركة:
وصف الله تعالى المسجد الأقصى بقوله: «الذي باركنا حوله»؛ أي: بالأنهار والأشجار والثمار، وقال مجاهد: سماه مباركاً لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي، ومنه يحشر الناس يوم القيامة، كما ذكر البغوي في تفسيره.
فإذا كان ما حول المسجد مباركاً فما بالنا بالمسجد نفسه! قال السعدي: ومن بركته تفضيله على غيره من المساجد سوى المسجد الحرام ومسجد المدينة، وإنه يطلب شد الرحال إليه للعبادة والصلاة فيه، وإن الله اختصه محلاً لكثير من أنبيائه وأصفيائه، وقيل: إنه مبارك بمن دفن حوله من الأنبياء والصالحين؛ وبهذا جعله مقدساً (تفسير القرطبي).
فهو مبارك في أرض مباركة، من بركتها أنه فيها، وأن كثيراً من الأنبياء كانوا فيها، وأن الله اختارها مهجراً لخليله، وبارك فيها بالخصب وكثرة الأشجار والثمار والأنهار، ومنها بعث أكثر الأنبياء، وهي أرض المحشر والمنشر، وبها ينزل عيسى ابن مريم، عليه السلام، وبها يهلك المسيح الدجال. (انظر: تفسير السعدي، البغوي، ابن كثير)، ومن بركته أنه يتطهر فيه من الذنوب، قال ابن الجوزي: وسمي بيت المقدس لأنه يتطهر فيه من الذنوب.
عمر بن الخطاب في بيت المقدس:
وقد دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه بيت المقدس فاتحاً وتسلم مفاتيحه، وقيل: كان سبب قدوم عمر إلى الشام أن أبا عبيدة حضر بيت المقدس، فطلب أهله منه أن يصالحهم على صلح أهل مدن الشام، وأن يكون المتولي للعقد عمر بن الخطاب، فكتب إليه بذلك (تاريخ الطبري ج3)، وكتب عمر الوثيقة المعروفة بالعهدة العمرية، التي تمثل روح الإسلام وعدله، وحبه للأمن والسلام لا الخضوع والاستسلام.
وكان نص الوثيقة: «بسم اللَّه الرحمن الرحيم، هذا ما أعطى عبداللَّه عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود، وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن، وعليهم أن يخرجوا منها الروم.. فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وصلبهم، حتى يبلغوا مأمنهم، ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم، وعلى ما في هذا الكتاب عهد اللَّه وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية.
شهد على ذلك خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاوية بن أبي سفيان وكتب وحضر سنة خمس عشرة» (تاريخ الطبري ج3).
لقد قدم عمر رضي الله عنه في بنود هذه الوثيقة صورة مضيئة لعزة الإسلام وسماحته ورحمته وعدله، فقد كان عمر رضي الله عنه يتمثل كل ذلك وهو الفاتح المنتصر لهذه الأرض المباركة! فاتح وظافر لكنه لم يعثُ فيها فساداً فيهلك الحرث والنسل، ولم يهدم البيوت فيها فيشرد أهلها ويذهب أنفسهم حسرات عليها، لم يدفن أطفالهم تحت الأنقاض ويقهرهم ويصيبهم بالعاهات والإعاقات، لم يرمّل نساءهم أو يُيَتّم أطفالهم أو يُجْهز على شيوخهم وضعفائهم، لم يهدم مستشفياتهم ويقتل أطباءهم، لم يكمم أفواههم ويخرس أصواتهم ويقتل الناطقين باسمهم، لم يقتل رهبانهم ويقتحم كنائسهم ويفرق عُبَّادهم، لم يهدم بنيتهم التحتية ولم يحرمهم من أهم ضروريات الحياة، لم يفعل ذلك كله أو بعضه، بل أعطاهم الحق في العيش في أمان وسلام، فأمنهم في أنفسهم فلم يقتلهم، وأمنهم في أموالهم فلم ينهبها، وأمنهم في كنائسهم فلم يهدمها، وأمنهم في عبادتهم فلم يُكرههم على ترك دينهم والدخول قهراً في دين الإسلام.
فأين هذا مما يحصل الآن من المحتلين لشعوبهم، ومن العنصريين المتطرفين لمن يخالف منهجهم وطريقهم؟! وممن يسلخون الناس عن دينهم مقابل سد جوعهم أو إيوائهم؟!