على مدى 11 يوماً استمرت موجة التصعيد الأخيرة بين المقاومة الفلسطينية والكيان الصهيوني، إثر مخطط الأخير طرد سكان حي الشيخ جراح في القدس من منازلهم والاستمرار في مخطط تقسيم المسجد الأقصى، ومنح جماعات المعبد حقاً -مدعوماً رسمياً وعسكرياً- بالصلاة فيه.
وإذا كانت معظم التقييمات تؤكد أن الاحتلال فشل في تحقيق أيّ من أهدافه في هذه الجولة، وأن المقاومة الفلسطينية ثبّتت معادلات جديدة في الصراع بما يفتح الباب على مرحلة مختلفة منه، فإن اللافت في هذه الجولة كان الاهتمام، بل والمشاركة الواسعة في دعم الفلسطينيين عربياً وإسلامياً ودولياً.
من الأمور التي ما زالت تثير لغطاً كبيراً موقف تركيا من القضية الفلسطينية، إذ إنه يمتاز بالتعقيدات الشديدة وربما ببعض المتناقضات، إذ نسجت أنقرة، ولا سيما مؤخراً، علاقات أكثر من جيدة مع الفلسطينيين بما في ذلك حركات المقاومة وتحديداً «حماس»، بينما لا تزال تحتفظ بعلاقات تجارية جيدة مع الكيان الصهيوني وعلاقات دبلوماسية قائمة وإن متراجعة للحد الأدنى مؤخراً.
لا بد من الإشارة أولاً إلى أن حزب العدالة والتنمية حين وصل للحكم في عام 2002م لم ينقلب تماماً على مجمل مواقف وسياسات بلاده الخارجية، وإنما أعاد تفسيرها وتوصيفها وأدخل تعديلات عليها، ومن ذلك القضية الفلسطينية.
وعليه، فإن موقف أنقرة منها محكوم بعدة محددات، في مقدمتها المشتركات الدينية والتاريخية والجغرافية والثقافية مع الفلسطينيين، مقابل تاريخ العلاقة مع الكيان الصهيوني التي بدأت باكراً جداً في عام 1949م، كأول دولة ذات أغلبية مسلمة تنسج علاقات معه، ومنها علاقات تركيا الغربية وخصوصاً عضويتها في حلف شمال الأطلسي، وبحصيلة كل ذلك فإن موقف تركيا الرسمي هو دعم «حل الدولتين» وتبني المبادرة العربية للسلام التي طرحت في قمة بيروت العربية.
ومنها أيضاً أن أنقرة تحتفظ بعلاقات جيدة مع مختلف الأطراف الفلسطينية، لكنها تتعامل في الأصل رسمياً من بوابة السلطة، ومنها أن دعمها للقضية لا يتخطى عادة المجالات السياسية والإعلامية والإغاثية والخدمية.. إلخ، ومنها، أخيراً، خصوصية القدس بالنسبة لها لأسباب دينية وقومية وتاريخية معروفة، وكذلك حصار غزة.
سيف القدس
رغم العلاقات القائمة مع دولة الاحتلال، فإن ذلك لا يمنع تركيا من انتقاد سياساتها التعسفية ضد الفلسطينيين، وهذا من أسباب عدم تبادل الجانبين السفراء في الوقت الحالي، منذ عام 2018م، ولعل الاعتداءات الصهيونية على الأقصى أو على قطاع غزة هي الفترات التي ينشط فيها الحراك التركي الداعم لفلسطين، وقد اجتمع العنصران في معركة «سيف القدس» التي أعلنتها المقاومة الفلسطينية للرد على انتهاكات الاحتلال في القدس عموماً والمسجد الأقصى على وجه الخصوص، التي تخللها سقوط مئات الشهداء معظمهم من الأطفال والنساء وآلاف الجرحى واستهداف البنى التحتية ووسائل الإعلام والمرافق الصحية وما إلى ذلك.
كالعادة، كان الموقف التركي عابراً للاختلافات السياسية والفكرية في البلاد، فصدرت مواقف نددت بالاحتلال بسقف مرتفع ولغة حادة من رئاسة الجمهورية والحكومة والبرلمان والأحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات والاتحادات وكذلك شرائح شعبية واسعة.
الموقف الرسمي، وعلى لسان الرئيس «أردوغان»، نعت «إسرائيل» بأنها «دولة إرهاب»، وعلى هذا النهج سار عدد من الأحزاب والشخصيات السياسية، وقد أشارت التصريحات التركية إلى جرائم الحرب التي ترتكبها آلة الحرب الصهيونية، ووقفت بانحياز كامل للشعب الفلسطيني وحقه في الدفاع عن نفسه (وهي السردية المناقضة تماماً للتصريحات الغربية).
كما أن الدبلوماسية التركية نشطت في التواصل مع كافة الأطراف ذات العلاقة في محاولة لتقصير مدة العدوان ووقفه سريعاً عن قطاع غزة، وقد اتصل «أردوغان» ووزير خارجيته «مولود تشاووش أوغلو» مع ما يقرب من 30 شخصية قيادية عربية وإسلامية ودولية، وكذلك في المنظمات الدولية والإقليمية، كما أن «تشاووش أوغلو» حرص على أن يرافق نظيره الفلسطيني «رياض المالكي» في رحلته إلى نيويورك للمشاركة في جلسة الجمعية العمومية للأمم المتحدة، وعلى متن طائرة واحدة أقلعت من أنقرة.
وبين طيات الموقف الرسمي، تحدث «أردوغان» عن ضرورة حماية الشعب الفلسطيني، مقترحاً إرسال قوة حماية من الأمم المتحدة أو منظمة التعاون الإسلامي، وكذلك فكرة إدارة مدينة القدس من قبل لجنة مكوّنة من الديانات الثلاث، وهي أفكار لم يعلق عليها الطرف الفلسطيني في الغالب لأنها مرفوضة من طرفه.
كما أن إدارة الشؤون الدينية في تركيا خصصت خطب العيد ويومي الجمعة (لأسبوعين) عن القضية الفلسطينية، وجمعت التبرعات في كل مساجد البلاد للفلسطينيين، شعبياً، ورغم أن تركيا كانت تطبق إغلاقاً كاملاً بسبب جائحة «كورونا»، فإنها شهدت مظاهرات يومية في عدة مدن في مقدمتها أنقرة وإسطنبول وخصوصاً أمام سفارة العدو وقنصليته.
آفاق مستقبلية
إذاً، فقد كان الحراك التركي سريعاً وشاملاً ومرتفع السقف، وانخرطت فيه كافة المؤسسات الرسمية التركية، فضلاً عن مؤسسات المجتمع المدني وشرائح من الشعب، وهو موقف معتاد متكرر من أنقرة، ولعل هذا تحديداً كان سبب انتقاد البعض له.
فموقف تركيا من القضية الفلسطينية مقدر دوماً من الفلسطينيين، ولا سيما على المستوى الشعبي المتعاطف بشدة معهم، لكن ليس من المبالغة القول: إن توقعاتهم وانتظاراتهم منها أكثر مما حصل، بالنظر للمشتركات الدينية والتاريخية والثقافية، ودور تركيا كقوة إقليمية صاعدة، وكذلك استثنائية المعركة التي حصلت.
ثمة من يرى أن المعركة الأخيرة كانت مختلفة عن سابقاتها بحجم الإجرام «الإسرائيلي» الذي تعمد منذ اللحظة الأولى استهداف المدنيين وقتل أكبر عدد ممكن منهم في محاولة للضغط على المقاومة وتأليب حاضنتها عليها، كما أنها كانت مختلفة عن سابقاتها بأداء المقاومة التي كانت لها اليد العليا فيها، ما دعم التقييم بأنها تحيل إلى مرحلة جديدة ومختلفة كلياً في القضية الفلسطينية ومواجهة الاحتلال.
وبالنظر لذلك -أي استثنائية المعركة الأخيرة- كانت هناك توقعات بموقف تركي أكثر «عملية» إلى جانب الفلسطينيين ومقاومتهم، يتخطى العاطفة والقول –على أهميتهما– إلى مساحات الفعل المباشر لتعزيز صمود الفلسطينيين.
وفي هذه النقطة بالذات، ينبغي القول: إن الأمر ليس مرتبطاً بنقص الإرادة أو العزيمة لدى تركيا بالضرورة، وإن كان ذلك محتملاً في بعض المسارات، وإنما بعدم القدرة، أو بالأحرى بسعي أطراف بعينها لتأطير الموقف التركي وإبعاده عن مساحات الفعل والتأثير، ونذكر هنا مثالين:
الأول: أن إدارة «بايدن» التي أبدت اهتماماً وتواصلاً وتفاعلاً مع التصعيد بشكل مختلف تماماً، شملت اتصالاتها كافة الأطراف ذات العلاقة، القريبة والبعيدة، إلا أنقرة تقريباً، وهو ما فُهم على أنه حرص واضح من واشنطن على إبقائها خارج المعادلة؛ ولذا، ورغم حديث المقاومة الفلسطينية عن اهتمام تركيا وتواصلها وجهودها في الوساطة، فإن الوسيط الرسمي كان مصر مع جهود قطرية مضافة.
والثاني: هو استعداد عدة مؤسسات تركية رسمية وشعبية لإرسال مساعدات إغاثية وطبية لغزة منذ أيام العدوان الأولى، ولكن يبدو أن غياب التنسيق مع القاهرة (ربما الأدق مماطلة الأخيرة) حال دون ذلك.
وفي الخلاصة، فقد كان موقف تركيا منحازاً بالكامل للفلسطينيين ومعرّضاً بسياسات الاحتلال مهاجماً له، لكنه كان موقفاً مكرراً وتقليدياً أمام حدث غير اعتيادي؛ وبالتالي، لعله من المهم لأنقرة وغيرها من الأطراف الإقليمية قراءة المعركة الأخيرة من هذه الزاوية، أي أنها حدث استثنائي سيكون له ما بعده وتداعياته على الفلسطينيين على صعيد العلاقات وموازين القوى داخلياً وكذلك على صعيد مقاومة الاحتلال، ما يفرض عليها وعلى الجميع رفع سقفها للتواؤم والتناغم أكثر مع مفردات المرحلة الجديدة التي رفعت من أسهم المقاومة وخصوصاً حركة «حماس» ميدانياً وكذلك سياسياً.
كما أن توقعات الفلسطينيين وفصائل مقاومتهم من الدول الشقيقة والصديقة ستتغير في المستقبل القريب لصالح سياقات تدعم بشكل حقيقي وعملي صمود الشعب وقدرات المقاومة على الدفاع عنه وعدم تركه فرصة سائغة للاحتلال والاكتفاء بتضميد جراحه بعد جولات التصعيد التي لا بد أن تتكرر.