في أبريل 2021م أعلنت جائزة عربية كبرى منح قيمتها التي تبلغ 262 ألف يورو (6 ملايين جنيه مصري تقريباً) للكاتب وأستاذ علم الاجتماع الألماني يورجن هابر ماس، وبعد قبوله للجائزة، أعلن أنه أخطأ واعتذر عن عدم قبولها بعد أن تبين له أنه كان مغرراً به.
بعد إعلان فوز هابر ماس كتبت مجلة «دير شبيجل» مقالاً بعنوان «هابر ماس والبروباجندا الـ…»، أشارت فيه إلى أن منح الجائزة سيشكل نجاحاً دعائياً لدولة… التي يسري فيها حكم يتناقض مع ما يدعو إليه هابر ماس… فردّ الرجل بإعلان تراجعه عن قبول الجائزة، وعدت الصحيفة ذلك قراراً يستحق التهنئة، بعدما ذكرت أن هابر ماس أوضح أن مَن قدّم له المشورة في البداية ودفعه لقبول الجائزة، مدير معرض فرانكفورت الدولي للكتاب، وهو نفسه أحد أعضاء اللجنة العلمية للجائزة المذكورة.
أداة دعاية
كان مقال «دير شبيجل» الألمانية مؤثراً إلى حدّ كبير في المشهد الثقافي الألماني، وعلى هابر ماس نفسه الذي تساءلت عنه المجلة: هل يمكن لواحد من أهم الفلاسفة الألمان قبول جائزة من دولة تشتهر بالقمع، وتنعدم فيها الحياة الديمقراطية، ويتحول إلى أداة دعاية يتم توظيفها لإخفاء وحشية نظام الحكم، وراء ستار دخان من المفردات السامية والتأنق الثقافي، وعبّر المقال عن الإحباط وخيبة أمل متوارية (عندما يلتقي العقل والقوة، تفوز القوة).
كانت قيمة جائزة هابر ماس أضعاف ما منح للفائزين العرب في حقول الاجتماع والأدب والنقد والتشكيل والترجمة وغيرها.
وجاء رد هابر ماس سريعاً، فأعلن رفضه للجائزة وقال: «لقد كان قراري خاطئاً، وأنا أصححه الآن، لم أفهم بشكل كافٍ العلاقة الوثيقة للغاية بين المؤسسة التي تمنح هذه الجوائز.. والنظام السياسي القائم».
هذا الموقف المشرّف لمجلة “دير شبيجل” ليس بجديد عليها، فقد اشتهرت المجلة اليسارية (قارن هذا بصحافة اليسار في البلاد العربية) على مدى العقود بقوة تحقيقاتها الاستقصائية، مثل كشفها في الخمسينيات ما كان للرشى من دور في اختيار مدينة “بون” بدل “فرانكفورت” عاصمة لألمانيا الفدرالية، وقد تعرض كبار محرريها للسجن عام 1962م بتهمة الخيانة العظمى في إطار قضية تتعلق بوزير الدفاع في حكومة كونراد أديناور، ولكن القضاء برأ المجلة فأجبر الوزير على الاستقالة.
عهد الحرية
وقد أحدثت هذه القضية صدمة لدى الرأي العام وكانت فاتحة لعهد الحرية الذي ساد من ذلك الوقت في الثقافة السياسية الألمانية، وقبل عامين تحدّت المجلة اللوبي الصهيوني فكشفت ما بذله من مساع لشراء ذمم عدد من البرلمانيين الألمان، وقد بادرت إلى فضح نفاق حكومة أنجيلا ميركل والتفافها على القوانين التي تحرّم بيع السلاح للدول والأطراف المتورطة في الحروب العبثية.
قارن هذا بصحيفة يسارية مصرية وحفاوتها بفائز من بلاد العرب نال إحدى الجوائز التي رفض هابر ماس جائزتها الكبرى، لقد أفردت للفائز المصري صفحات عديدة في نسختها الصادرة بتاريخ 27 رمضان 1442هـ/ 9 مايو 2021م، حفاوة به وبالجائزة! المفارقة أنه أستاذ في علم الاجتماع أيضاً بجامعة مصرية عريقة، ولكنه لم يلتفت إلى القيمة التي عبرت عنها الجريدة الألمانية والأستاذ الألماني الذي صحّح موقفه، وقال: إن لحظة منحه الجائزة فارقة في حياته، وإن حياته ستختلف عما كان قبلها(!)، وراح يتحدث عن مسوغات استحقاقه للجائزة، ومنها أنه كان شاهداً على ما يسميه الصراعات الاجتماعية والسياسية التي ارتبطت بسعي حركات الإسلام السياسي للسيطرة على المجتمع المصري(!)، ويفسر جوهر ما يسميه الاستعلاء الديني لدى الإسلاميين بأنه يستهدف الآخر الغربي تحديداً، وأن الاستعلاء يظل ملتبساً بمشاعر من الدونية يصعب أحياناً إدراكها! ويتهم ما يسميه بالمؤسسات الدينية في مصر (يقصد المؤسسات العلمية الإسلامية) بالتناقض والتعارض في موقفها من التجديد.. إلى آخر هذا القاموس الذي يستخدمه خصوم الإسلام وأنصار الاستبداد، لا مجال للرد على مقولاته، ولكن انبطاحه هكذا مؤسف.
لا ريب أن هابر ماس كان أكثر احتراماً وانحيازاً لقيم الإسلام التي ترفض القمع والظلم والاستبداد ومحاربة العقيدة الإسلامية والتفريط في المقدسات وحقوق المسلمين، وهو ما اعترف به المسؤولون عن الجائزة حيث قال أحدهم: «قلّما نجد شخصيات بارزة في الحقل الفلسفي والثقافي والفكري مثل يورجن هابر ماس، فهو يتمتع بمسيرة حافلة بالإنجازات والأعمال المتميّزة، التي جعلته الصوت الأكثر حضوراً وتأثيراً في الحياة الثقافية الألمانية، على مدى أكثر من 50 عاماً، وما لقب شخصية العام الثقافية إلا تأكيد على تميّز مسيرته ونتاجه الفلسفي المهم، الذي أثر في الثقافة العالمية، ومنها الثقافة العربية».
من هو هابر ماس؟
قالت عنه موسوعة “ويكيبيديا”: “يورجن هابر ماس: فيلسوف وعالم اجتماع ألماني معاصر، ولد في دسلدورف 1929م، وما زال يعيش بألمانيا، يعدّ من أهم علماء الاجتماع والسياسة في عالمنا المعاصر، وهو من أهم منظري مدرسة فرانكفورت النقدية، له أكثر من خمسين كتاباً، ويتناول موضوعات عديدة في الفلسفة وعلم الاجتماع وتنسب إليه نظرية الفعل التواصلي، ويرى إيان كريب أنه الوريث الرئيس المعاصر لتركة مدرسة فرانكفورت، ومع أن هناك أفكاراً مشتركة واضحة بينه وبين أسلافه، فإنه نحا بهذه المدرسة منحى مختلفاً، وإذا كان ما يجمع أعمال بعضهم الاهتمام الشديد بحرية الإنسان مهما بعدت إمكانية وجود تلك الحرية عن أرض الواقع، فإن هابر ماس أقل حماساً في هذا الجانب، إنه يتحرر من التذبذب بين التفاؤل والتشاؤم ويركز جل تفكيره بدلاً من ذلك على تحليل الفعل والبنى الاجتماعية، ولا جدال في انتماء هابر ماس إلى اليسار، إلا أنه، وربما بشكل غير متوقع ينتقد التقاليد الفكرية التي تنتمي إليها الماركسية، ويمكن النظر إليه، أولاً، بوصفه متمسكاً بتصور يزاوج بين البنية والفعل في نظرية كلية واحدة، وثانياً بوصفه مدافعاً عن مشروع الحداثة، بالأخص عن فكرتي العقل والأخلاق الكليين، وحجته في ذلك أن مشروع الحداثة لم يفشل بل بالأحرى لم يتجسد أبداً، ولذا فالحداثة لم تنته بعد، ويظهر أن هذا الموقف يضعه في اتجاه معارض تماماً مع أسلافه بالنظر إلى موقفهم من نقد عقل التنوير.
دور الدين
لقد أصبح واضحاً بشكل خاص لدى هابر ماس التفكير مرة ثانية بالدور العام للدين، وبعض تصريحاته كانت مدهشة، وقد كرر في مقالة عنوانها “عصر التحول” 2004م: “المسيحية، ولا شيء ما عدا ذلك، المؤسسة النهائية للحرية، والضمير، وحقوق الإنسان، والديمقراطية، إلى يومنا هذا، نحن ليس لدينا خيارات أخرى، نواصل تغذية أنفسنا من هذا المصدر، كل شيء آخر ثرثرة ما بعد الحداثة”!
من أعماله المؤلفة: التحولات البنيوية للأوضاع الاجتماعية (1962)، النظرية والممارسة (1963)، منطق العلوم الاجتماعية (1967)، نحو مجتمع عقلاني (1967)، المعرفة والمصالح البشرية (1968)، “الهوية الاجتماعية”(1974)، الوعي الأخلاقي والفعل التواصلي (1983)، المحافظيّة الجديدة (1985)، تفكير ما بعد الميتافيزيقا (1988)، العقلانية والدين (1998)، أوروبا القديمة، أوروبا الجديدة، قلب أوروبا (2005)، جدل العلمانية (2007م).
أم الدنيا
وقد أثار موقف الرجل من رفض الجائزة ردود فعل واسعة على مستوى العالم والبلاد العربية باستثناء أم الدنيا، حيث لم يظهر صدى قوي لموقف الرفض في أي من الكتابات أو التعليقات أو وسائل التواصل الاجتماعي، كأن الأمر لم يحدث من أساسه، أو على حد تعبير الشاعر القديم:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيس ولم يسمر بمكة سامر!
وتفسير المسألة بسيط، يمثل في أن الذين يهيمنون على المشهد الثقافي أو الحظيرة الثقافية وفق التعبير الشهير لوزير ثقافة أسبق، يفيدون من هذه الجوائز وشبيهاتها مادياً ومعنوياً، وبعضهم يقوم عليها أو يشارك في تحكيمها، أو بعضهم مدين للقوم الذين يمنحونها بصورة ما.
في العالم العربي وخارج نطاق الدولة المهيمنة والمؤسسات الثقافية والإعلامية التي تسيطر عليها، كانت هناك مقالات وتعليقات واستدعاء لمواقف كتاب ومثقفين عالميين من الجوائز التي منحت لهم.
المعنى الحقيقي
وصف الكاتب السوري فواز حداد موقف هابر ماس الرافض للجائزة بقوله: “هذا التصرف يجعلنا نؤمن بأن هناك مثقفين كباراً، يمنحون للثقافة معناها الحقيقي”.
وعلق الكاتب المغربي رشيد المومني قائلاً: “نقائص الوجود العربي لا يمكن ترميمها، ولا تجميلها بشراء فضائل الآخرين، فلنكف عن رشوة الإبداع الكوني، وحَرْف مساره المضيء، محاولين أن نسطو عليه، بقدرة ثرواتنا المادية الغبية، من أجل لَجْمه وتبذيله، كما فعلنا مع مخزوننا المعرفي عربياً منذ عقود”.
واستطرد: “نحن ندرك أن تنازل المفكرين والمبدعين على اختلاف ميولهم ومناهجهم أمام الإغراءات المادية هو في العمق كارثة معرفية خطيرة”.
وقال الكاتب خليل النعيمي: “إن الرأس الفارغ لا يمكن ملؤه بالذهب، وإن الإبداع العظيم لا يُشْتَرى، وإن الثروة ليست إدراكاً، ولا معرفة”.
سخرية شو
لقد منحت الأكاديمية السويدية للعلوم عام 1925م جائزة “نوبل” في الآداب لبرنارد شو، الكاتب الإنجليزي الساخر، ولكنه رفضها، وقال مقولته الشهيرة: “هذه الجائزة أشبه بطوق نجاة يلقى به إلى شخص وصل فعلاً بر الأمان ولم يعد عليه من خطر”، وسخر من مؤسس الجائزة وصانع الديناميت “ألفريد نوبل”، قائلاً: “إنني أغفر لنوبل أنه اخترع الديناميت ولكنني لا أغفر له أنه أنشأ جائزة نوبل”، وطلب أن تستخدم قيمتها المادية في ترجمة أعمال الكاتب المسرحي أوجست ستريندبرج من السويدية إلى الإنجليزية.
وقال جان بول سارتر عن رفضه لجائزة نوبل عام 1964م: «لست أدري بأي حق يريد خمسون رجلاً مسنّاً ممن ألّفوا كتباً رديئة أن يكرّموني ويتوّجوني؟ إن القرَّاء فقط هم الذين يحق لهم تحديد قيمتي».
أما الكاتب الإسباني خوان غويتيسولو، فقد رفض جائزة “القذافي” العالمية للآداب في دورتها الأولى 2009، وأعلن في سبتمبر 2009م رفضه لجائزة معمر القذافي الأدبية، وهو كاتب عاشق للثقافة العربية، اختار الإقامة في مراكش، وأعاد قراءة الجذور العربية- الأندلسية لثقافة بلاده، وكان مدافعاً عن حقوق الإنسان، وقال الكاتب الإسباني في بيان رفضه للجائزة: «إن هذا الموقف ينسجم مع قناعاتي ومواقفي المناصرة لقضايا العدل، وهي خطوة في اتجاه البحث الدائم عن التماهي مع مواقفي المناهضة دوماً للأنظمة الاستبدادية»، هذه الجائزة كان يترأسها الروائي الشيوعي الليبي إبراهيم الكوني، الذي لم يجد غير الكاتب الموالي دائماً للسلطة جابر عصفور ليمنحها له، وقد رد له الرجل المهيمن على المشهد الثقافي المصري الجائزة بمثلها، فمنح الكوني جائزة الرواية المصرية!
مرة واحدة
على المستوى العربي، لم يحدث رفض للجوائز إلا مرة واحدة يوم الاحتفال بتسليمها، وكان ذلك في المجلس الأعلى للثقافة بمصر (أكتوبر 2003م) حيث أعلن الروائي الشيوعي المصري صنع الله إبراهيم رفضه جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، الذي قال: «في هذه اللحظة التي نجتمع فيها هنا، تجتاح القوات “الإسرائيلية” ما تبقى من الأراضي الفلسطينية، وتقتل النساء الحوامل والأطفال، وتشرد الآلاف، وتنفذ بدقة منهجية واضحة لإبادة الشعب الفلسطيني وتهجيره من أرضه، لكن العواصم العربية تستقبل زعماء “إسرائيل” بالأحضان، وعلى بعد خطوات من هنا يقيم السفير “الإسرائيلي” في طمأنينة، وعلى بعد خطوات أخرى يحتل السفير الأمريكي حياً بأكمله بينما ينتشر جنوده في كل ركن من أركان الوطن الذي كان عربياً”. وأعلن في مشهد تمثيلي رفضه للجائزة “لأنها صادرة عن حكومة لا تملك، في نظري، مصداقية منحها»، لم يكن الموقف مريحاً لكتاب الحظيرة الثقافية ووزيرهم، الذين وقعوا في حيص بيص، وحاولوا تدارك الأمر بصورة وأخرى، ولكنهم تعلموا درسا مهما، وهو ضرورة أن يوقع الفائز ولو كان حظائرياً على إقرار بقبول الجائزة، حتى لا يستطيع رفضها، ولو في مشهد تمثيلي!
الطريف أن بعض الحظائريين الذي فازوا بجائزة مبارك التي سمّيت بعد ثورة يناير “جائزة النيل”، أعلنوا عقب الثورة رفضهم للجائزة لأن من تحمل اسمه أهدر دماء المصريين، ولم يعيدوا قيمتها إلى خزينة الدولة!
شرف المثقف
الفارق بين الكاتب الألماني رافض الجائزة وكتّاب الحظائر في بلادنا العربية أن الرجل يملك شرف المثقف المستقل صاحب القضية ولو اختلفت معه اختلافاً كبيراً، أما من يتصدرون مشهدنا الثقافي ومعظمهم من الشيوعيين وخصوم الإسلام فهم مثقفون استعماليون، على استعداد لتمثيل كل الأدوار.
في بلادنا العربية والإسلامية مثقفون شرفاء رساليون، ويملكون شرف الكلمة والوقوف ضد الظلم والاستبداد، ولكنهم للأسف محاصرون أو مغيبون أو مهمشون، أو مقيدون داخل الأبواب المظلمة!