وكأن بعضًا من العرب والمسلمين اعتادوا وألفوا الحزن فاعتادوه واعتادهم؛ وكأن توقع استمرار الانكسار صار عُرفًا دارجًا في أبجدياتهم لا يريدون مفارقته، ففور انتهاء ما أسماه الكيان الصهيوني بعملية “حارس الأسوار” فجر الجمعة 21 من مايو الماضي، وبعد 11 يومًا من القصف والعدوان وتدمير المنازل فوق رؤوس النائمين من أهلنا في غزة واستمرار معاناتهم نهارًا، وبعد استشهاد نحو 67 طفلًا حركوا ضمير العالم وقلوب سياسيين وإعلاميين كبار حتى نادى بعضهم باعتبار “إسرائيل” كيانًا إرهابيًا، بعد أن كانوا من أبرز المدافعين عنها، وبعد أن قارب شهداؤنا الفلسطينيون 280 بالإضافة إلى آلاف المصابين، وفور أن تنفس أكثر من مليونين الصعداء في غزة، وخرجوا مكبرين تكبيرات العيد التي تأخرت 8 أيام كاملة، وبعد أن فرحت مدن فلسطين المحتلة وإخواننا داخل الكيان الغاصب، فشهدنا تكبيرات العيد بأصواتهم على الهواء مباشرة، وسهرنا حتى الفجر في ليلة “الجمعة الطويلة الحبيبة”، بعد أن نشرت مصر الخبر وصدّقته “إسرائيل” بتوقف إطلاقها للصواريخ من طرف واحد كما بدأتها؛ في اعتراف واضح وصريح بلا مكابرة من الصهاينة بفرض حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية واقعًا مُبشرًا بفاتحة انتصارات مقبلة -بإذن الله- بعد أن أثبتت كتائب القسام وأخواتها أنها على مستوى المسئولية، وأنها قادرة على ردع العدوان ومنع “إسرائيل” من الانتصار مجددًا بسابق حسن إعدادها الطويل عسكريًا وميدانيا، واستلهام الموقف كله من قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأنفال: 60).
رغم هذا كله وخروج المدن الفلسطينية فرحة مستبشرة بانتهاء الغمة، وقد نال بعضها من الكرب مثلما نال غزة، بل رغم الفرحة التي عمت أرجاء الأمة بصمود حماس وعدم هزيمتها وكسر كبرياء العدو الصهيوني المزيف وعدم انتصاره.. فإن بعض المحسوبين على المفكرين والخبراء السياسيين العرب لم يلبثوا إلا أن “أفاقوا” بعد ساعات قليلة من انتهاء العدوان ليفاجئوا الجميع بـ”التشكيك” في “نوايا” و”توجهات” حماس؛ لأنها امتدحت على لسان كبار مسئوليها دعم إيران بالمال والسلاح، ومن قبلها النظام المصري، ثم كانت “ثالثة الأثافي” لديهم بشكر أحد مسئوليها للنظام السوري ورئيسه بشار الأسد.
من أبجديات المواءمة السياسية والأخلاقية:
راح هؤلاء يحدثوننا ويدبجون المقالات والتدوينات هنا وهناك عن الأخلاق التي لا تتجزأ، وضرورة عدم اتخاذ كتاب “الأمير” وبرجماتية مؤلفه ميكافيللي طريقًا تسير فيه حماس مع صورتها الناصعة البراقة في قلوب مئات الملايين من العرب والمسلمين.
ورغم عدم موافقتنا بالضرورة لجميع مواقف حماس الماضية والمستقبلية، أو دفاعنا عن كل ما يصدر عن حماس، واعترافنا بأنها كيان يمثل نقطة الكرامة في جبين ودماء هذه الأمة، لكنها قائمة على مجهودات جميع شرفاء ومخلصي العالم؛ أي على جهد بشري، يجتهد وصولًا للصواب لكنه قد يعرف الخطأ.
والمهم في سياقنا هذا التصدي لعلاج موقف الأمة الإسلامية الحالي الذي لا تكاد تعرف له مثيلًا على الأقل خلال العصر الحديث، المهم دفاع حماس عن الأمة والتسليم بارتكانها إلى مفردات المساعدة والمؤازرة المادية والمعنوية من أطراف فعالة ـ رغم ما بين بعض هذه الدول والبعض الآخر؛ بمعنى أن حماس تستعين بمساعدات إيران رغم ما بين الأخيرة وطرف من دول الأمة، كما تستعين حماس بالنظامين السوري والمصري رغم ما بينهما وبين المعارضين من شعبيهما من نزاع دموي واسع المدى للأسف الشديد.
استطاعت المقاومة الفلسطينية جمع أشتات ومتنافري الأمة في طريق واحد لمقاومة عدوها، بما فشل فيه جميع الأطراف مع بعضهم بعضا؛ ولأن الأمر ملغز ومحير بل مجهد ومضنٍ؛ فبدلًا من أن يتفرغ معنيون بهمِّ الأمة لدراسة كيف يمكن أن تجتمع أشتاتها على كلمة سواء أو حتى ما يشبهها ويقاربها مبدئيًا، وكيف تعلو الهمم وتشرئب أعناق الأماني لجمع الشمل ووحدة الأمة بداية من أصلها ومنبتها ومحط آمالها ومقبل أحلامها ومفجر نهضتها ووحدتها وحضارتها سابقًا (الأمة العربية؟) بدلًا من هذا التوجه وتلك المقاربة التي تبدو صعبة عسيرة الآن لكننا لا ندري كيف يمكن أن تكون الأحوال إذا ما أُخلصت المجهودات وتضافرت الخطوات وخطرات القلوب؟ فقد كان النظام المصري الحالي –مثلًا- يعادي “حماس” ويتخذ منها مرمى.. بل إن كبيره وقف متباهيًا بإخراج أهل سيناء منها لتفجير الأنفاق المؤدية لغزة خاصة قرب رفح المصرية، وقد كان ذلك العام الماضي فحسب، كما تم إعداد عشرات القضايا وظلم مئات المصريين بدعوى التعاون مع غزة وحركة حماس، وكان على رأسهم الرئيس الراحل محمد مرسي، واليوم يتفاخر النظام نفسه بنجاحه في وقف إطلاق النار بين غزة و”إسرائيل” وتبرعه بـ500 مليون دولار لإعادة إعمارها -ولو كان في هيئة مؤن وإنشاءات-، ونحن لسنا في حاجة هنا إلى أن نقرر أن السياسة هي فن الممكن والمواءمات، وأن أعداء اليوم أصدقاء الأمس والنقيض بالنقيض، إذ إننا في الحقيقة لا نؤمن بهذه المقولة -على إطلاقها- إلا إذا اضطرت دولنا إليها اضطرارًا، مع حسن الإعداد للتغلب على أمثال الأعداء المطلوب مهادنتهم، حتى حين تواصل مجهوداتنا ونجاحها فنستغني عنهم بل نستطيع مواجهتهم.
أما فيما يخص أطياف الأمة المتنازعة داخل الوطن الجزئي الواحد (مصر مثالًا) فإننا لنأمل في وقت قريب يستطيع فيه المعارضون موازنة أمورهم، ولملمة أطيافهم، وصولًا لمعادلة تقارب معادلة معاملة حماس لعدوهم؛ فمن صبر وتحمل عبر سنوات بصمود واستبسال، وصولًا إلى دحر وهزيمة -بإذن الله- وهو ما نتمناه لبقية دول “الربيع العربي” التي تعاني.
ويبقى أن سياسة معاملة العدو خارجيًا على أنه “صديق مؤقت”، وميكافيلية السياسة لا ينبغي لدينا أن تكون على الإطلاق بين أطياف ودول وحدود الأمة الإسلامية الواحدة، وكما استطاعت حماس توحيد إيران، سورية، مصر بل جميع الشعوب الإسلامية على محبتها والتجاوز لآلامها؛ مثلما جمعت حماس الأمة على محبة كفاحها وجمعت ووحدت هذه الأنظمة المتنافرة من جسد الأمة على مساعدتها فإن علينا –نحن المحللين والمنظرين لواقع الأمة- أن نبشر بعاجل فرجها وخلاصها وتوحدها بعيدًا عن الموقف الحالي ومرارته، ولنا في حماس واستبسالها مقاربة الآمال وجدواها ضد العدو؛ ما يفيد بقرب تحقق ما نرنو ونهفو إليه خاصة مع وعد الله بتمكين الصابرين الصالحين من الأرض وتوريثها لهم؛ وهو ما نرجو من الله تعالى أن يكون قريبًا تكتحل أعيننا برؤيته بإذنه تعالى بعد أن يهيئنا ويمدنا بقوة بذل المجهود المناسب لتحقيق ذلك إنه نعم المولى ونعم النصير.