في كل مرة تدهشني أفعاله؛ حيله التي أتقنها، كلماته وحركات يديه؛ يبدو أنه ساحر من صنف عجيب من حواة الغجر الذين تناسلوا في كفرنا، يمسك بحبل سري يجذب إليه الدراويش، أحدهم صار العمدة يتبعه الخفراء يأتونه بالوشايات، وآخرون بلغوا مكانة الوجهاء فسدوا عين النهر؛ ينقلب كل شيء على رأسه، طاقت نفسي للتجول في الشوارع والحارات والأزقة.. للبيوت القديمة رائحة، اغتربت بضع سنين وما يزال الحنين إلى الناس والحكايات والعراك تحت شجرة الجميز؛ ليلة المولد الكبير والمداح يسرح بنا ويجول في سيرة النبي، وأحيانا يراقص الطوب فوق خشبة الساحة، يسرق الكحل من العيون، نتبعه حتى حافة البئر المليء بالأعاجيب: خلاخيل وخمسة وخميسة وحبة البهلوان وتراب العفريت، دهن العطار الذي يعيد ماء الحياة لمن ضربهم الجفاف، مضى كل هذا؛ غير أن السر تحول إلى شبح يشبه الجن وبه بقية إنسان تلبسه جسد غريب.
يرتدي نظارة سوداء، رجله مسلوخة وحاجبه الأيسر تتدلى منه شعرة حمراء؛ مشقوق الشفة العليا؛ نحسبه أرنبا فر من جحر خالتي ستوته العمياء.
جحر من وراء آخر تمد يدها فتكاد تتحرك أصابعها كأنما هي ديدان الأرض تخرج من عفن المساقي وبرك الماء.
في ذلك العالم كل شيء له منفعة؛ الساحر والحكواتي والغجري؛ بائع الخرز الأزرق ومزين الصحة حتى توحة العرجاء التي تدب على عصاها الخشبية؛ تختن البنات وتسد مجرى الدم برماد الفرن، بهلول صباغ الحمير يفعل الأعاجيب؛ حتى حفار القبور الذي تسميه جدتي” المخفي” لا يكف كل صباح عن شق أرض الفدان؛ يخرج حاملا فأسه وكسرات خبزه قد شد حبلا حول وسطه فيبدو أشبه بخيال المآتة يخيف العصافير وتقف فوق عارضته الغربان.
يجول في كفرنا الذي نهشه الفقر وعضه الجوع أصناف عجيبة من الناس؛ سحرة غجر ورجال يرتدون لحى كثيفة وثيابهم لا تطول ركبهم؛ يتطوحون ويتمايلون؛ يجرى وراءهم الصغار يصنعون حبلا من البنين والبنات؛ شعر مجعد وثياب سرحت فيها فئران البر، يتقدمهم سعدون ذو المسبحة الخضراء؛ كلما مر بحارة امتلأ جواله بأرغفة شتى، حتى عظم البهائم وجلود الماعز وعلب الحلوى يجمعها وعربته يجرها حماره الهزيل ويدفعها الذين يصلون على النبي.
حتى نسوان كفرنا ضربهن سن العجز قبل الأوان، لا ولد يسند الظهر ولا مال ينفع في زمن القهر.
أخبرهم أن زاوية الكيال تحتها كنز، حفر المخفي نفقا تحت الجامع فتساقطت جدرانه وانهدمت بوابة المدرسة العتيقة؛ قالت جدتي: بناها الباشا الكبير، كانت فيها عمامة خضراء ومصحف مكتوب بماء الذهب.
مضت الأيام والسبع سنين التي تبع فيها الناس سعدون ذو المسبحة الخضراء، تفل في الماء فخرجت حية تسعى، لسانها يتراقص وذيلها يحرك بيضة من تحت حجر في قعر النهر.
جاء المخفي حفار القبور؛ ضرب الحجر ورمى الودع؛ ظهرت توحة الغجرية في صورة سمكة بلطية ذيلها أصفر في نهايته جرس يرن؛ ومداح النبي يضرب بالموال في كفر النوام.
مددت يدى لأجولة سعدون؛ أخرجت نصف رغيف، شربت من ماء النهر، انكشفت غمامة كانت تحجب ضوء الشمس، سرحت عنزة وراء أخرى؛ يجري سعدون الذي كانت مسبحته خضراء، يقذفه الصغار بالحجر، يفر حماره الهزيل يغوص المخفي في باطن الأرض.
يمسك الدراويش بعصيهم، تتساقط رؤوس وتمتلئ الزاوية بالدم، يعلو صوت سعدون يطلب المدد، ترميه توحة العرجاء بطرف عينها اليسرى فينتشي طربا، صعب على من انحنى ظهره وتيبست يده من طلب الرغيف أن تشبع بطنه، يظل مكسورا ولو لفوه في نخلة البلح، يجري دمه في عروق الذل.
يظهر سعدون ليلة المولد، يروون عنه عجائب: عنده سمكة من ذهب وحية من فضة وقرد يشرب النهر ولا حاجة إلى سد؛ فكفر النوام مهدد بالقحط؛ يتطوح دراويش الله قرب النهر، ومدد يا ولي الله!