تحدثنا في مدونات سابقة عن بعض الأزمات التي يعانيها المشروع الإسلامي الإصلاحي، وقدمنا بعض المراجعات في ذلك الإطار، نذكر منها: فقدان المشروع الإسلامي للبوصلة وتحديد الأولوية، واقترحنا أن تكون مواجهة المشروع الصهيوني هي الأولوية؛ لما له من أخطار تطال الجميع، كما تحدثنا عن تفعيل دور الشباب، وتفعيل دور المرأة، واستيعاب الآخر، وغير ذلك من المراجعات.
ولعلنا بالتواصل مع القائمين على العديد من الحركات الإسلامية، وهي أجزاء في المشروع الإسلامي، وجدنا إقرار معظمهم بحجم الأزمة ومظاهرها وجوانبها، ومما يؤسف له، أنه رغم إدراك الجميع لهذه الأزمة وخطورتها، إلا أننا لم نجد من يبادر فـ “يعلق الجرس” ويبدأ مشوار البحث عن حل.
وفي تقديرنا فإن هذا يعود لعوامل متعددة، نذكر منها:
صعوبة الأزمة وكثرة تعقيداتها
فالأزمة متراكمة منذ حوالي القرن، ومتراكبة المظاهر والمستويات، والبحث عن الحل يحتاج بالضرورة تشخيص الأسباب، ومواجهة الذات ووضع النقاط على الحروف، وفي بعض الأحيان تحميل المسؤوليات عن الفشل والإخفاقات، وهذا فيه ما فيه من المحاذير والتعقيدات، مما يجعل الكثيرين يؤثرون السلامة والقعود عن النهوض بالمشروع ومواجهة الأزمة.
الحركات الإسلامية تعاني
إن ما تعانيه الحركات الإسلامية من أزمات داخلية، تصل أحياناً حد التنافس والاحتراب والانشقاق (حركات الإخوان نموذجاً) وبعض هذه الأزمات هو أحد إفرازات ما تواجهه من قمع واضطهاد ومحاولة للقضاء عليها وعلى مشروعها وتجفيف منابعها من الأصل، فضلاً عن الأزمات المالية الخانقة، في ضوء محاولات تجفيف المنابع ومصادرة الأموال.
شراسة العدو وتتابع هجماته
وهذا العامل انعكس على العامل السابق بالضرورة، فجعل المشروع الإسلامي ينشغل بأزماته الداخلية ويلملم جراحه، ويسعى للتخفيف من معاناة أفراده وقياداته، ومن الطبيعي في ظل ذلك أن تضيع البوصلة، وأن تفقد الأولويات، ولكن إلى حد معين، إذ لا يصح أن نعطي عدونا كل هذه الفرص وهذا الوقت للانقضاض علينا، دون أن نشاغله، أو نحاول أن نجد موقفاً للطوارئ، نستعيد فيه بعضاً من أنفاسنا، ونحاول أن نشغله بنفسه، ونبدأ العمل والهجوم والبناء من جديد، فقد طالت فترة تلقي الضربات منذ بدء “الربيع العربي”، ونحن هنا نتحدث بعد عقد من الزمان تقريباً.
إخفاقات المشروع طيلة سنوات القرن الماضي
وعدم تحقيق النتائج المرجوة، رغم الوصول إلى مواقع القرار في كثير من الدول، جعل الكثير من المبادرين يترددون في التقدم بأي مبادرة، لإصلاح الخلل وإعادة توجيه الدفة، خوفاً من النتائج من جهة، ومن تحمل تبعات الفشل من جهة ثانية، طبعاً إضافةً إلى عدم وضوح الرؤية وضبابية المشهد، مما يزيد التخوف تخوفاً، والتردد تردداً.
ولعلي لا أبالغ في باب التأكيد على أهمية “تعليق الجرس” والمبادرة هنا، بأن أقول: إن من يتصدى لهذه المهمة سيكون بإذن الله مجدد أمر هذا الدين، لهذا القرن الحادي والعشرين، مصداقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها أمر دينها”، وأي تجديد لأمر الدين سيكون أهم من لمّ شتات المصلحين، ووضع مشروعهم في استئناف الحياة الإسلامية على السكة الصحيحة، وإعادة إحيائه من جديد، بعد الإجابة عن كثير من التساؤلات التي تواجهه، وحل كثير من الإشكالات التي يعاني منها، ومواجهة التحديات التي تعترضه، بل إنه أفضل مقامات التجديد، وأوضحها وأهمها، ولا أبالغ إذا قلت: إنه محل إجماع العقلاء وقادة التغيير في الأمة.
وللتأكيد على عمق الأزمة، أود التذكير بعدد من التساؤلات التي سبق أن أثرت بعضها، مما يواجهه المشروع الإسلامي:
هل تصلح الحركات الإسلامية للنهوض بالمشروع الإسلامي الإصلاحي بوضعها الحالي؟
ما أوجه وأشكال الأزمات التي يواجهها المشروع الإسلامي؟ بمعنى هل هي هياكل الحركات؟ أم قياداتها؟ أم آليات اتخاذ القرار فيها؟
ما الرؤية الممكنة لتوحيد وجمع الجهود التي تبذلها جزئيات المشروع الإسلامي؟
ما أهداف المشروع الإسلامي في ضوء الواقع الجديد للأمة الإسلامية؟ وما أولوياته؟
هل ما زال مفهوم الخلافة الإسلامية قائماً في المشروع؟ وهل بات ممكن التحقيق؟ أم ينبغي البحث عن صيغ أخرى؟
ما موقف المشروع الإسلامي من الشرعية الدولية؟ وهل يرى المشروع أن الأصل في العلاقات الدولية هو السلم أم الحرب؟ وكيف يفهم المشروع الإسلامي قضية الجهاد في ضوء العلاقات الدولية؟
ما موقف المشروع الإسلامي من المؤسسات الدولية الاقتصادية مثل البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي؟ وهل سيتعامل معها حسب النظام الربوي؟
ما موقف المشروع الإسلامي من التعددية السياسية والحزبية؟ وهل سيرخص الأحزاب غير الإسلامية أو حتى غير المسلمة (الحزب الشيوعي مثلاً)؟
وبمعنى أوسع ما موقف المشروع الإسلامي من العملية الديمقراطية برمتها؟ هل سيقبلها؟ أم ستكون مجرد سلم للوصول ثم الانقلاب عليها؟
ما موقف المشروع الإسلامي من الآخَر سواء غير المسلم أو المختلف فكرياً وثقافياً؟ وبالتالي ما موقف المشروع الإسلامي من الأقليات غير المسلمة؟
ما موقف المشروع الإسلامي من قضية الحريات؟ وهل سيسمح للناس بحرية الاعتقاد؟ وهل سيتيح للناس حرية الفكر والتعبير في ضوء ذلك؟
ما موقف المشروع الإسلامي من قضية المرأة وحريتها؟ وهل سيتيح لها أن تشارك في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟
ما موقف المشروع الإسلامي من الاقتصاديات القائمة؟ وما النظام الاقتصادي المعاصر الذي سيتبناه؟ أم سيخضع بحكم الواقع للنظام الرأسمالي الربوي؟
هذه التساؤلات، وغيرها الكثير، أزعم أن المشروع الإسلامي لم يجب عنها حتى الآن، بل لم يبذل جهداً كافياً للإجابة عنها، ولذلك نجد اجتهادات متباينة بين جزئياته في تحديد الموقف من هذه القضايا، وهذا لا يخفى على أدنى متابع، بالمقارنة بين التجربة التركية والسودانية والمصرية والمغربية والأردنية واليمنية، وغيرها، ولعل خطورة عدم الإجابة عن هذه التساؤلات تكمن بشكل أساسي في عدم الاستعداد للتعامل معها في حال الانتقال من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، وعدم تأهيل الكوادر والكفاءات بما ينسجم مع الرؤية التي يمتلكها المشروع الإسلامي.
وإذا سلمنا بما مضى آنفاً، فما المطلوب؟ غايتي من هذا المقال أن أدعو العلماء والمفكرين والمصلحين، والحركات والأحزاب والتجمعات والنخب الثقافية والفكرية والسياسية، إلى المبادرة و”تعليق الجرس” والبدء بمحاولة الإجابة عن التساؤلات السابقة وغيرها، والبحث عن المخرج من الأزمة، وبلورة المشروع الإسلامي من جديد.
علماً بأنني تحدثت سابقاً بهذا الهم الذي يشغلني، مع نخبة من المثقفين والمفكرين والمصلحين، أذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: سماحة شيخنا الإمام يوسف القرضاوي، حفظه الله، ود. طارق سويدان، والشيخ سلمان العودة (فرج الله عنه)، والأستاذ خالد مشعل، وغيرهم الكثير من الزملاء والأصدقاء.
ولا يفوتني هنا الإشارة إلى مبادرة د. صلاح عبدالمقصود من خلال مركز الحضارة للبحوث والدراسات، حيث عقد مشكوراً ندوة تمثل خطوة أولى على مشروع الإصلاح الإسلامي وكانت بعنوان “المشروع الإسلامي.. خريطة التحديات وأسئلة المستقبل” التي تشرفت بالمشاركة فيها من خلال ورقة عمل حول الرؤية الإستراتيجية التي أقترحها للمشروع الإصلاحي، وقد ضمت الندوة عدة محاور وأفكار مهمة، بعضها يحاول الإجابة عما مر من التساؤلات، وغيرها.
ولكنني ما زلت أعتقد أن المشروع ما زال بحاجة لمزيد من الحراك والملتقيات والمنتديات والمؤتمرات الموسعة والضيقة، للوصول إلى الإجابات المنشودة، والسعي للنهوض الإسلامي من جديد، خاصة وأننا نعيش مرحلة ما بعد معركة “سيف القدس” التي جعلتنا نشعر جميعاً بأن نهاية المشروع الصهيوني أقرب من أي وقت مضى، وبالمناسبة فإن الرؤية التي تبنيتها، وما زلت، تقوم على جعل مواجهة هذا المشروع هي البوصلة والأولوية، ولعل هذه النتيجة تجعل إمكانية البحث عن مخرج للمشروع الإسلامي أقرب منها سابقاً.
___________________
(*) المصدر: مدونات الجزيرة.