تواجه الجاليات المسلمة في العصر الحديث عدداً من التحديات المتنوعة والمتعددة في ضوء تزايد أعداد تلك الجاليات، سواء في البلاد التي تقطن فيها تلك الجاليات بالفعل وتشكل مكوناً رئيساً من مكوناتها القومية كما في بعض دول أفريقيا على سبيل المثال والصين، أو تلك البلاد التي هاجر إليها المسلمون منذ عقود واختاروا العيش الدائم فيها هم وأسرهم كما في بعض بلدان الغرب وأستراليا.
وقد شكلت المتغيرات المعاصرة نحو المسلمين بصفة عامة والجاليات بصفة خاصة عاملاً من عوامل تهديد الهوية الإسلامية والتنشئة على مبادئ العقيدة والثقافة الإسلامية.
نحاول في هذه المقالة إلقاء الضوء على سبل مواجهة تهديد الهوية الإسلامية والتنشئة الدينية للجاليات المسلمة في الغرب، كنموذج ملموس لما تعانيه كثير من الجاليات المسلمة في العالم المعاصر.
من التحديات التي تواجه مسلمي الغرب التشريعات السياسية والإعلام وأكثرها خطورة الهوية والثقافة
حفظ الدين للجاليات المسلمة بالغرب (المفهوم):
نقصد بحفظ الدين للجاليات المسلمة ما يتعلق بتعلم أصول الإسلام التي لا يستقيم إيمان المسلم إلا بتعلمها، وهذه الأصول هي القرآن الكريم والسُّنة النبوية، بالإضافة إلى ما يشكل الجانب الثقافي للشخصية المسلمة من السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي، وكذلك ما لا يسع المسلم جهله من الأحكام الفقهية الضرورية لممارساته العبادية؛ مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج ووجوه المعاملات الاقتصادية والاجتماعية.. وكل ذلك لا يمكن أن يتأتى إلا من خلال نظام التربية والتعليم والثقافة، التي تبدأ في الأسرة وصولاً إلى المؤسسات التعليمية مروراً بالمجتمع الذي يتيح ويهيئ ممارسة المظاهر الثقافية الدينية بشكل حر، لا تضييق فيه ولا مواجهة؛ فكل هذه الجوانب تؤدي إلى حفظ الدين، واختلال أي عنصر فيها يؤدي إلى حدوث خلل أو فساد في هذا الحفظ.
التحديات التي تواجه حفظ الدين للجاليات المسلمة:
أغلب الجاليات المسلمة تعاني من التشتت الاجتماعي والجغرافي وتباعد المراكز الإسلامية
واقع الأمر فيما يتعلق بالحالة الثقافية للجاليات المسلمة يؤكد لنا وجود العديد من التحديات والمعوقات التي من شأنها إضعاف التنشئة الثقافية الإسلامية في نفوس أبناء الجاليات المسلمة؛ إذ إن الحقل الثقافي يعتبر أبرز الحقول المتأثرة بالمتغيرات والتحولات الدولية الراهنة، خاصة على مستوى اشتداد الصراع الثقافي وسيادة الثقافة الغربية في كل الميادين، وهذا الأمر يزداد تفاقماً عندما يتعلق بأبناء الجاليات المسلمة التي تعيش في بيئة غير إسلامية؛ حيث يتم تنشئة الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين في مؤسسات لم توضع لهم أصلاً(1).
ومن هذه التحديات التي تواجهها الجاليات المسلمة ما يعرف بتحدي التشريعات السياسية التي تعمل على مواجهة النشاط الثقافي والتربوي لتلك الجاليات، كذلك التحدي الإعلامي المتمثل في تأجيج الشعور بالكراهية ضدها فيما عرف بظاهرة “الإسلاموفوبيا”، والتحدي الثالث الأكثر خطورة هو الهوية والثقافة، الذي يشكل التعليم الديني محوره الأساس؛ فمع قلة المدارس الإسلامية وضعف إمكاناتها، نجد كذلك محاولة تقليص أعداد تلك المدارس، وكثير منها يواجه الإغلاق لا سيما في العقد الأخير الذي واجه فيه التعليم الديني للجاليات المسلمة في الغرب تضييقاً شديداً على المراكز الإسلامية ونشاط المساجد بزعم الإرهاب!
التحديات الداخلية:
إذا كان التعليم الديني هو المركز لحفظ الدين بين الجاليات المسلمة في الغرب، فإن هناك تحديات داخلية بين الجاليات نفسها تعوق هذا النوع من التعليم، وما يتعلق به سواء داخل الأسر المسلمة، أو المراكز الإسلامية التي ينبغي أن توجه أنشطتها الثقافية إلى تلك الجاليات، وأهم مظاهر هذه التحديات غياب التنظيم المؤسسي الذي يمكن أن تلتقي عليه وفيه الجاليات المسلمة لتوحيد رؤيتها نحو ما يتعلق بعملية التنشئة الثقافية والأحوال التعليمية؛ حيث تعاني أغلب الجاليات الإسلامية من التشتت والتناثر الاجتماعي والجغرافي في البلد الواحد.
كذلك، فإن التباعد الجغرافي بين المراكز الإسلامية نتيجة اتساع رقعة الجاليات وعدم تمركزها في تجمعات قريبة، كان من بين العوامل التي ساعدت على عدم وجود تنسيق بين خطط العمل الثقافي المتبعة في تلك المراكز؛ الأمر الذي أدى إلى وجود اختلافات بين مناهج العمل في تلك المراكز وعدم الاتفاق حول تحديد الأوليات في المجال الثقافي(2).
كثير من الأسر المهاجرة لا تضع أهمية للتعليم الديني وتقدِّم عليه التعليم الحديث لضمان حياة مستقرة لأولادهم
كذلك من التحديات الداخلية ضعف نتائج التعلم الموازي –في الأسرة والمسجد والمراكز الأخرى- وغياب ثماره المرجوة، كذلك –أيضاً– فإن فكرة التعلم الموازي واجهت صعوبات هيكلية سواء فيما يتعلق بالكوادر المؤهلة للقيام بهذه المهمة، أو من حيث التخطيط التربوي الجيد لها، أو من حيث ضمان استمرارها وديمومة القيام عليها، كما أن الفجوة بين طموحات الأجيال والتزامهم بالثقافة الدينية الإسلامية، والانجذاب ناحية الهوية والخصوصية الحضارية لهم لا سيما ما يتعلق باللغة والنشاط والاندماج في التقاليد الغربية للعيش بسهولة، لم تساعد على تحقيق تنشئة دينية واعية والارتباط بالتعاليم الإسلامية.
وإذا كان للجيل الأول معوقاته اللغوية والمعرفية والوجدانية، مما حتم ارتباكاً كبيراً في العلاقة التربوية مع الجيل الثاني والثالث؛ فإن الأمر لم يقتصر على غياب التواصل الداخلي بين تلك الأجيال، بل تجاوزه إلى غياب التواصل مع العالم الخارجي أيضاً حيث أصبح لكل جيل مشكلاته النوعية مع محيطه الخارجي أيضاً(3).
وأيضاً، فإن كثيراً من الأسر المهاجرة لا تضع في حسبانها الأهمية الضرورية للتعليم الديني، وترى أن توجيه أولادهم إلى التعليم الحديث –لا سيما البلدان المتقدمة كأوروبا وأمريكا– هو الضامن لحياة مستقرة وفرصة عمل في مجتمعات الغربة، ومن ثم لا ترى للتحصين التربوي الذاتي لأفرادها ضرورة لا سيما إذا كانت تواجه صعوبات اقتصادية أو عملية في تلك المجتمعات التي هاجرت إليها.
سبل حفظ الدين للجاليات المسلمة:
تقوم هذه المقترحات بالأساس على فكرة دعم وتعزيز التعليم الديني لدى الأجيال الناشئة للجاليات المسلمة، ومن هذه السبل التي يمكن أن تحقق ذلك ما يلي:
1- ما يتعلق بالجامعات الإسلامية الكبرى في العالم الإسلامي: ينبغي للجامعات الإسلامية الكبرى في العالم الإسلامي كجامعة الأزهر في مصر، والجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا، وجامعة آل البيت في الأردن، وجامعة العلوم الإسلامية في الجزائر وغيرها من الجامعات الإسلامية العريقة أن يكون لديها اهتمام مؤسسي بالتعليم الديني للجاليات المسلمة في العالم، بتأسيس كلية بكل جامعة تحمل هذا الاسم «كلية الجاليات المسلمة»، تكون مهمتها إعداد المعلمين والمربين الذين يتولون أمور التربية الدينية للجاليات التي ينتمون إليها، ويفضل أن يكون طلاب هذه الكليات من أبناء الجاليات أنفسهم أو ممن لديه الرغبة في تأدية هذه الرسالة، وأن يكون تمويل هذه الكليات من ميزانية الجامعة أو المؤسسات الدولية الإسلامية، وبذلك يكون اهتمام هذه الجامعات موجهاً مباشرة لخدمة الجاليات وبلغاتهم الأصلية.
«كلية الأقليات المسلمة» مقترح يجب أن تتبناه الجامعات الإسلامية لإعداد المعلمين لأبناء المسلمين بالغرب
2- ما يتعلق بتأسيس الجمعيات المحلية النوعية: لا بد من تكثيف إنشاء جمعيات محلية نوعية ومتعددة المجالات التربوية والثقافية بين الجاليات المسلمة لا سيما في البلدان التي يتوفر فيها هذا المناخ القانوني، وذلك من أجل تحقيق التآزر والتعاضد للتقاليد والعادات الإسلامية، ومن ثم تقلل هذه العلاقات من الشعور بالاغتراب الذي تعانيه الجاليات المسلمة في أوساط وتقاليد تختلف بل وربما إلى حد التناقض مع العادات والتقاليد الإسلامية مثل الأزياء والملابس لا سيما للنساء المسلمات والفتيات المقبلات على سن البلوغ، بما يساهم في تحقيق محاكاة قريبة من البيئة الإسلامية المنشودة.
يجب إنشاء وقف إسلامي لدعم المدارس الإسلامية بالتعاون مع الحكومات الإسلامية والهيئات الخيرية
3- ما يتعلق بتحسين التعليم الموازي وتطويره: التعليم الموازي –كما ذكرنا سابقاً- هو الذي يتم في الأسرة والمسجد والمراكز والجمعيات الإسلامية التي تؤسسها الجاليات المسلمة سواء من خلال الجهود التطوعية لبعض أفراد هذه الجاليات أو يتم تمويلها من خلال التبرعات الاستقدام بعض المعلمين الذين يقومون بالتدريس في هذه المؤسسات.
ويجب أن يراعى في هذا النمط من التعليم التأهل التربوي والعلمي، والكفاءة الأخلاقية لتسري قيمة «القدوة» في الأجيال المتعلمة، وأن تتضمن مناهج هذا النمط من التعليم قراءة القرآن باللغة العربية، التفسير حسب لغات الجاليات، الثقافة الإسلامية العامة.
4- ما يتعلق بأدبيات التعليم الديني: يجب أن تتميز هذه الكتابات بمجموعة من العناصر اللازمة كي تحقق جاذبيتها وهدفيتها في حفظ الدين للجاليات، ومن أهم ما يجب أن تختص به ما يلي:
أ- تبسيط التعليم الفقهي، ويتضمن هذا النمط من الكتابات شرح الأحكام الفقهية التي يحتاجها الفرد المسلم في حياته بصورة أساسية؛ مثل ما يتعلق بالصلاة والصوم والزكاة والحج، كذلك ما يتعلق بالمعاملات الاجتماعية والتعاملات الاقتصادية كالعقود وغيرها، وبيان رأي الشرع منها، ويراعى في هذا النمط من الكتابات البساطة اللغوية ومخاطبة الثقافات الإسلامية المختلفة التي تمثل مجتمع الجاليات وتنوعه الواسع، كذلك تكون هذه الكتابات بعدة لغات تتوافق مع لغات الجاليات المسلمة الموجودة، ويجب مراعاة اللغات الأكثر انتشاراً في العالم والأقل؛ بحيث تتم طباعة الكتب التي تغطي هذه اللغات، ومن ناحية أخرى؛ يجب أن تتجنب هذه الكتابات كثرة الشروح والتفريعات والآراء، وتقتصر على الآراء التي تحقق مقاصد الإسلام وتراعي ظروف الجاليات الإسلامية في أماكن تواجدها.
ب- كتابات الأصول العقدية: وهذه الكتابات تقوم على تناول أصول العقيدة الإسلامية، وأصلها الأعظم وهو «التوحيد» ثم «النبوة» ثم «القرآن»، فهذه المحاور الثلاثة ينبغي أن تكون مرتكزاً للكتابات العقدية بتوضيح مبانيها ورد الشبهات الحديثة عنها. وينبغي أن يتوافر في مضامين هذه الكتابات بساطة اللغة المكتوبة، وتنوع اللغة، والابتعاد عن مواطن الجدل المذهبي والفرقي، والرجوع إلى القرآن الكريم في تناول هذه الأصول بما يحقق أغراضاً متنوعة من هذه الكتابات، وأن تزود بشروح ووسائل تكنولوجيا حديثة، والاستفادة من وسائل التقنية المتقدمة.
5- تفعيل خطة “الإيسيسكو” وتعميمها: قدمت منظمة «الإيسيسكو» الإسلامية خطة طموحة لا يمكن إغفالها عند طرح حلول لمواجهة تحديات التعلم الديني للجاليات الإسلامية؛ ففي المجال التربوي والتعليمي اقترحت «خطة العمل الثقافي» الإسلامي للجاليات ما يلي(4):
– العمل على تشكيل مجلس أعلى للتربية والثقافة في الغرب من عناصر مؤهلة وخبراء تربويين، كما يتم عمل هيكلة لجان أخرى على مستوى كل دولة غربية.
«الإيسيسكو» قدمت خطة طموحة عند طرح حلول لمواجهة تحديات التعليم الديني لمسلمي الغرب
– يكلف المجلس الأعلى بوضع منهاج تعليم وتربوي موحد يراعي الثوابت الإسلامية والواقع الغربي.
– التحضير القانوني والتنظيمي والتربوي لإنشاء المدارس الإسلامية الخاصة بأبناء الجالية المسلمة بالغرب، ودعوة الدول الغربية للمساهمة في تمويل هذا المشروع.
– إعداد خطة متكاملة لتكوين الأطر التربوية التي ستقوم بالتدريس بالمدارس الإسلامية الخاصة، وإعداد المؤسسات اللازمة لتخريج المعلمين.
– العمل على إنشاء وقف إسلامي يرصد ريعه لدعم المدارس الإسلامية الخاصة، وذلك بالتعاون مع الحكومات الإسلامية والهيئات الخيرية القائمة فيها.
– إنشاء مرصد إسلامي بالغرب لتتبع واقع تربية وتعلم أبناء الجالية المسلمة بالغرب، وتأسيس بنك للمعطيات في هذا المجال مع استشراف تطوير واقع التربية والتعليم لهذه الجاليات.
– إنشاء اتحاد للمدارس الإسلامية في الغرب يوحّد الجهود والمبادرات، ويرمي إلى تقوية أواصر التعاون والتشاور بين مختلف المدارس الإسلامية سعياً إلى تطوير عملها وتعزيز فرض القبول والاعتراف المتبادل بين المدارس الإسلامية والغربية.
6- وقف خاص للجاليات المسلمة (حل مشكلة التمويل): إحدى أهم مشكلات التعليم الديني هي توفير المؤسسات الخاصة وتمويلها من أجل ضمان استمرار عملها وتطويره، ومن ثم تظهر مشكلة التمويل لتأسيس واستمرار عمل هذه المؤسسات بما يغطي احتياجات الجاليات المسلمة منها، وهذه الإشكالية تظهر أكثر –كما ذكرنا- في أفريقيا، ومن الدراسات المهمة في هذه الصدد لحل تلك الإشكالية، كانت دراسة قطب الريسوني «مصارف الوقف والأقليات المسلمة بالغرب»(5)، كما طرح عبدالستار الهيتي مقترحاً لتأسيس “الجامعة الوقفية الإسلامية”(6) في الغرب بغرض خدمة الجاليات المسلمة.
—-
الهوامش:
(1) المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة: إستراتيجية العمل الثقافي خارج العالم الإسلامي، ص14.
(2) المرجع السابق، ص16.
(3) المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة: إستراتيجية العمل الثقافي خارج العالم الإسلامي، ص68.
(4) المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة: إستراتيجية العمل الثقافي خارج العالم الإسلامي، مرجع سابق، ص 103-104.
(5) قطب الريسوني: «مصارف الوقف والأقليات المسلمة بالغرب»، مجلة التفاهم، عدد (14) نسخة إلكترونية https://tafahom.mara.gov.om/storage/al-tafahom/ar/2006/014/pdf/17.pdf، ص 64- 76.
(6) انظر: عبدالستار إبراهيم الهيتي: “الجامعة الوقفية الإسلامية”، مجلة أوقاف، الكويت، عدد (2)، س2، 2002، ص104.