يمكن إيجاز تاريخ بيت المقدس في العصر الإسلامي في ست مراحل كبرى فاصلة، هي:
1- مرحلة الفتح التي كانت في عهد الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صدر الإسلام، في العقد الثاني من القرن الأول الهجري، وبالتحديد في ربيع الآخر 16هـ.
2- ثم مرحلة الاحتلال الصليبي التي جرت في أواخر القرن الخامس الهجري، وبالتحديد في عام 492هـ.
3- ثم مرحلة التحرير التي جرت على يد السلطان الناصر صلاح الدين الأيوبي أواخر القرن السادس الهجري بعد تسعين عاماً من الاحتلال الصليبي، وبالتحديد في رجب 583هـ.
4- ثم مرحلة الضياع مرة أخرى التي جرت على يد الأيوبيين المتأخرين: الملك الكامل الأيوبي، وهو ابن أخي صلاح الدين، ثم الناصر داود، وهو ابن أخي الملك الكامل، وذلك في النصف الأول من القرن السابع الهجري، وبالتحديد في عام 624، و641هـ على التوالي.
5- ثم مرحلة استرجاعه مرة أخرى على يد الملك الصالح نجم الدين أيوب بالتحالف مع الجيش الخوارزمي بعد عام من ضياعه، وبالتحديد في عام 642هـ.
6- ثم مرحلة الضياع مرة أخرى في العصر الحديث على يد قوات الاحتلال الإنجليزي بعد سبعة قرون، وبالتحديد في عام 1917م (1366هـ)، ثم الاجتياح «الإسرائيلي» للنصف الشرقي من المدينة المقدسة عام 1967م (1387هـ).
ولم يزل المسلمون ينتظرون المرحلة السابعة، مرحلة التحرير من الاحتلال الصهيوني، نسأل الله أن يكون قريباً، وأن نكون من جند هذا التحرير.
ومن أبرز ما يُلاحَظ، من خلال التأمل في هذا التاريخ، أن بيت المقدس يبدو كدُرَّة التاج، أو كالقلب من الضلوع، لا يمكن الوصول إليها ولا الظفر بها إلا بعد المرور بالعواصم المهمة المحيطة بها، بمعنى أن احتلال بيت المقدس أو تحريره إنما هو الثمرة الأخيرة لتاريخ من الكفاح والنضال للسيطرة على العواصم السياسية المهيمنة على بيت المقدس.
أولاً: الفتح:
لما خرجت الجيوش الإسلامية الفاتحة إلى الشام، وكانوا خمسة جيوش، كانوا يستهدفون بهذه القسمة تشتيت جيش الروم الضخم وتقسيمه إلى خمسة كذلك، فقد كان جيش الروم عشرة أضعاف الجيش المسلم، ولهذا حاول أبو بكر من خلال توجيه خمسة جيوش أن يستدرج هرقل، قيصر الروم، إلى إخراج خمسة جيوش مقابلة لكي ينكسر هذا التفوق العددي الهائل، ولكن هرقل فطن لهذه الخطة؛ فأرسل قطعة من جيشه في مقابلة جيش عمرو بن العاص في جنوب فلسطين، وأبقى بقية الجيش ككتلة واحدة، ولم يكن هذا الجيش يستهدف استرجاع المناطق التي فتحها المسلمون، وإنما استهدف تطويق الجيش المسلم، فكان يتوغل إلى الجنوب، وهو الأمر الخطير الذي كان يُجبر المسلمين على ترك ما فتحوه والعودة جنوباً حتى لا يجري تطويقهم وقطع الطريق عليهم، ولهذا تكررت في فتوح الشام أن يفتح المسلمون البلد أكثر من مرة، وأن يعيدوا الجزية التي أخذوها من أهل هذا البلد، كما تكرر أيضاً أن ينتقض بعض البلاد على المسلمين حين يتصورون أن انسحابهم كان ضعفاً.
ما يهمنا في سياقنا هذا أن عاصمة الشام دمشق فُتِحَت قبل فتح بيت المقدس بعاميْن، فقد كان فتح دمشق (الأحد 15 رجب 14 هـ/ 5 سبتمبر 635م)، بينما كان فتح بيت المقدس (ربيع الآخر 16هـ/ مايو 637م).
وبعدما فتح المسلمون دمشق، اضطروا للانسحاب منها لئلا يطوقهم الروم، ثم خاضوا المعركة الكبرى مع جيش الروم الرئيس، وهي «اليرموك» بعد عام من فتح دمشق (رجب 15هـ)، ولما نصرهم الله النصر الكبير فيها انفتح الطريق إلى بيت المقدس وفُتِحت بعد «اليرموك» بتسعة أشهر.
لو كان الصحابة مجموعة من الدراويش لكان حرصهم على فتح بيت المقدس أشد من حرصهم على فتح دمشق، فبيت المقدس هي القبلة الأولى ومسرى النبي وفيها صلى النبي بالأنبياء، إلا أنهم كانوا أهل عقل وحكمة وسياسة وتدبير، وقد عرفوا أن الطريق إلى بيت المقدس لا بد أن يمر بدمشق.
ثانياً: التحرير:
وفي التحرير الصلاحي لبيت المقدس، سنرى ذات السُّنة جارية مطردة، فقد انبعث عماد الدين زنكي، واستطاع أن يستقطع لنفسه إمارة في منطقة الموصل ثم حلب، ومن هذه البقعة بدأت معركة تحرير بيت المقدس مع الصليبيين، واستطاع عماد الدين زنكي أن يقضي على واحدة من الإمارات الصليبية، وهي إمارة الرها، ولكنه لم يستطع أن يفعل أكثر من ذلك؛ لسبب بسيط، أنه لا بد له من دمشق! وهو الأمر الذي قُتِل قبل أن يحققه، ثم استطاع بعده ابنه نور الدين أن يحقق هذه الأمنية ويستولي على دمشق في عملية أشبه بالثورة الشعبية والانقلاب الناعم، وذلك في عام 549هـ، أي قبل أربع وثلاثين سنة من تحرير بيت المقدس.
واشتعلت بعدئذ معركة محمومة بين المسلمين بقيادة نور الدين والصليبيين للسيطرة على القاهرة، وكانت آنئذ أكثر بلاد المسلمين ثراء وغنى، وكانت تحت حكم العبيديين (الفاطميين)، وكان واضحاً للجميع أن من استطاع أخذ مصر فقد حسم المعركة لصالحه، وجرت فصول عديدة انتهت بقدرة نور الدين السيطرة على مصر في عام 564هـ؛ أي قبل تسع عشرة سنة من تحرير بيت المقدس، وفي القاهرة استطاع نائب نور الدين –أسد الدين شيركوه، ثم صلاح الدين- إنهاء الدولة الفاطمية وتوحيد مصر والشام عام 567هـ؛ أي قبل ست عشرة سنة من تحرير بيت المقدس.
ولكن نور الدين تُوفي، وجرت فصول كثيرة هددت الشام بالعودة إلى التمزق مرة أخرى، وحينئذ ردَّت مصر جميل الشام، فانطلق منها صلاح الدين ليعيد الوحدة المهددة، واستطاع أن يكون سيد الشام وأن يحرر دمشق من أمرائها الفاسدين الذين عادوا للتحالف مع الفرنجة عام 570هـ؛ أي قبل ثلاث عشرة سنة من تحرير بيت المقدس.
عندئذ صارت مسألة بيت المقدس مجرد وقت، وهو ما تحقق فعلاً وتحررت (رجب 583هـ) على يد سلطان مصر والشام الملك الناصر أبو المظفر صلاح الدين الأيوبي.
ما كان بالإمكان أن تتحرر بيت المقدس دون عواصم مصر والشام (القاهرة ودمشق)، وما كان ممكناً إخراج جيش التحرير وفي الشام أمراء يسيطرون على مدنها ومواردها ورجالها ويستطيعون عقد العهود والاتفاقيات مع الصليبيين، فيأكلون أموال البلاد والعباد ويجندونها في خدمة مصالحهم بل وفي خدمة الصليبيين.
لقد قضى صلاح الدين الأيوبي وحده في رحلة تحرير بيت المقدس عشرين عاماً، كانت ثلاثة أرباعها في تحرير الديار الإسلامية من الأمراء الفاسدين والمتعاونين مع الصليبيين في مصر والشام، وذلك أنه وصل إلى مصر ضمن جيش عمه أسد الدين (564هـ) فقضى خمس سنوات في إصلاح حالها، ومنها تمدد إلى برقة والمغرب الأدنى وإلى اليمن كذلك، ثم جاءت وفاة نور الدين (569هـ) لتهدد ما جرى إنجازه على يد أمراء الشام الذين أعادوا التواصل مع الصليبيين بل وأطلقوا لهم الأسرى وبذلوا لهم الجزية مرة أخرى، فنهض صلاح الدين من مصر ليعيد توحيد الشام، وظل في شغل بهذا الأمر لمدة أحد عشر عاماً حتى عام 580هـ، ولم يستغرق أمر فتح بيت المقدس بعد ذلك إلا ثلاث سنوات فقط، ثم قضى بقية عمره في التصدي للحملة الصليبية الثالثة حتى صدَّها ثم مات رحمه الله.
في المقال القادم، إن شاء الله تعالى، نتعرض لتاريخ ضياع بيت المقدس في الحملات الصليبية، ثم ضياعه في الاحتلال الغربي المعاصر، لنرى اطراد هذه السُّنة التي تجعل بيت المقدس كدرة التاج أو كموضع القلب من الضلوع، لا يُخلَص إليها إلا عبر منافذها من العواصم العربية المحيطة بها.