فريدة منذ البداية حين اختارها الإسكندر المقدوني مدينة يونانية في الجانب الجنوبي من البحر الأبيض، واستمرت صفة التفرد ملازمة لها طوال تاريخها، بعد أن ظلت منارة للعلم ومركزاً لنشر الفلسفة اليونانية، وموطناً لأكبر مكتبة في العالم.
ثم اختارها القديس مرقس لتكون مركزاً من المراكز الأولى للتبشير بالمسيحية، وأسس بها الكنيسة المرقسية بصفته واحداً من المبشرين الثلاثة الأوائل للمسيحية، ومات في الإسكندرية عام 62م.
ثم صارت مركزاً من مراكز العلم في العالم الإسلامي وثغراً من ثغور الجهاد، واستقطبت علماء المسلمين من الشرق والغرب، وما زالت أسماء شوارع وأحياء ومساجد ومقامات الأولياء شاهدة على هذا التنوع الجغرافي من فارس إلى الأندلس لعلمائها الذين استوطنوها.
ثم انفردت عن سائر القطر المصري بكونها ظلت سُنية المذهب في الوقت الذي كانت فيه مصر تحت حكم الفاطميين، وكانت القاهرة مركز الدعاية للمذهب الشيعي، وما زالت قبور ومقامات علمائها في نشر المذهب السُّني أثناء الحكم الفاطمي؛ من أمثال سيدي الطرطوشي، والحافظ السلفي المدفون بجوار الطرطوشي في مسجد القاضي سند بشارع الباب الأخضر في حي اللبان، وغيرها شاهدة على ذلك.
ثم صارت مدينة الإسكندرية ركيزة تحديث الدولة المصرية في عهد محمد علي ومن تلاه من الأسرة العلوية، وصارت ثالث ميناء على مستوى العالم في حجم التبادل التجاري عبر موانئها، وظلت العاصمة الصيفية للدولة حتى نهاية حكم الأسرة الملكية عام 1952.
في هذه الفترة انفردت الإسكندرية عن كل محافظات الجمهورية بوجود مجلس بلدي يدير شؤونها الداخلية، فيما يشبه الحكم الذاتي، وتم إنشاء المجلس عام 1890، وكان يتألف من 28 عضواً منهم 8 تعينهم الحكومة، وكانوا في الغالب مصريين، و6 ينتخبهم دافعو ضرائب البلدية، و3 ينتخبهم المصدرون، و3 ينتخبهم المستوردون، و8 ينتخبهم أصحاب الأملاك، وكان مجلسا متعدد الجنسيات؛ حيث نصت لائحته على عدم السماح بوجود أكثر من 3 من الأعضاء المنتخبين من جنسية واحدة، وكانت باقي محافظات الجمهورية بها فقط مجالس محلية وقروية، ولم تنل القاهرة طلبها بالمساواة بإسكندرية في أن يكون لها مجلس بلدي إلا بعد 59 عاماً في عام 1949.
كانت الإسكندرية هي العاصمة الفنية والثقافية لمصر في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين؛ فيها التقط غوبل فسكويه أول صورة شمسية في مصر لقصر رأس التين عام 1839 بعد 11 شهراً فقط من ظهور هذا الاكتشاف لأول مرة في باريس.
وفي الإسكندرية تم أول عرض سينمائي في مصر في يناير 1896، بعد شهر من أول عرض في العالم تم في باريس، وفيها تم افتتاح أول دار عرض سينمائي في مصر عام 1897.
وفي الإسكندرية تم كسر احتكار الأجانب لصناعة السينما، بعد عودة محمد محمد بيومي، رائد صناعة السينما في مصر، وتأسيسه لأول أستوديو سينمائي يؤسسه مصري باسم “آمون فيلم”، وكان من فرائد إنتاجها تصوير فيلم عن نقل أعمدة مسجد أبو العباس المرسي القديم عام 1932، وأسس بيومي المعهد المصري للسينما عام 1931 في الإسكندرية، وهو النواة الأولى لمعاهد تعليم فنون السينما في مصر، وقام بتصوير فيلم “الخطيب رقم 13″، الذي يعد أول فيلم مصري متكامل، وتم عمل ديكور الفيلم على أرض تبرع بها الأمير “عمر طوسون”، أمير الإسكندرية المحبوب، وتم عرض الفيلم في سينما راديو في الإسكندرية يوم 25 ديسمبر 1933.
وظلت كنوز التجارب الأولى للسينما المصرية محفوظة في شقة محمد بيومي التي كان يقيم فيها في شارع “هيبوقراط” بحي “الأزاريطة”، بعد وفاته ووفاة زوجته “شارلوت” النمساوية التي دفنت في المقابر المسيحية بالشاطبي، واكتشفها المخرج والباحث السينمائي محمد كامل القليوبي.
وظلت الإسكندرية على تفردها كقطعة من أوروبا على أرض مصرية حتى الستينيات؛ فحين أتاها المفكر الراحل د. عبدالوهاب المسيري قادماً من دمنهور للدراسة في كلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية عام 1955 وصفها في مذكراته “رحلتي الفكرية” قائلاً: “ذهبت إلى هناك أحمل إدراكي المركب وثقتي بنفسي، وفجأة وجدت نفسي في قلب مدينة مصرية اسماً، وغربية فعلاً، كنت أقطن في الإبراهيمية التي كانت جالية يونانية كبيرة تعيش فيها، حتى بائع الخضر كان ينادي على بضاعته باللغة اليونانية، وفي بعض المطاعم لم يكن بد من الحديث باليونانية أو الفرنسية، وإلى جانب هذا كانت هناك نواد للسينما تعرض علينا أحدث الأفلام الأوروبية وحفلات موسيقية، جو “كوزموبوليتاني” (متعدد الثقافات)، يمكن أن يثري الإنسان ويمكن أن يبتلعه”.
نظرة د. عبدالوهاب المسيري العالِم المدقق المفكر لمدينة الإسكندرية وتنوعها العرقي وثرائها الثقافي، وتفردها عن عموم الدولة المصرية، كانت هي نظرة عموم أهل مصر لإسكندرية، وبقدر ما كان أهل مصر ينظرون لتفرد إسكندرية، كان متغلغلاً في أعماق الإسكندري إحساسه بنوع من التفرد؛ فهو مصري الوطن، إسكندري الهوى.
وما زالت الأجيال التي أدركت طرفاً من شعاع شمس الإسكندرية قبل غروبها، يتعلقون بهذا الشعاع، ويحنون له ويحلمون بعودته، ويقاومون بذكرياتهم قتامة الغروب.