يمر العرب في حاضرهم بعدة أزمات، تنتهبهم وتحاول أن تنال من وجودهم، ومما ابتلي به العرب أن قل معين الإبداع، وتسنم زمام الثقافة العربية قوم غير رصناء، يديرونها لغير وجهة سوية، يقسرونها على نبعة هجين. ومما عمت به البلوى أن سادت بضع كلمات يسطرها مدع للشعر فيخالها من هوى ويميل بها طرباً؛ أن يقال له شاعر!
وما الشعر إلا عاطفة منتظمة في قالب فني ذي قانون متبع، ونهج مستمد من قيم الفن المتوارثة!
بدعة أن تسمى تلك النثريات التي تخلو من الفن وتبعد عن بحور النغم، تسع الطاقة الشعرية؛ فترى فيها دررا، كان العقاد يوصي بما سمي “الشعر الحر” أن يعرض على لجنة النثر!
ولو جيء بألف سطر من هذا “الحر”، ووزن بأبيات للمتنبي أو الجواهري لمالت كفتهما!
إن المتتبع لحريته يجدها خلاء من النظام، ويجد ضعفا في البناء؛ فالشعر العربي المحكم بناء يتطاول، ولغة تستقر على عمد ثابتة راسخة، ليس نبتة حائرة في صاعد؛ أينما تميلها الريح تترنح!
لكل الدنا عوالم إبداع وسبل بيان، وما العرب بدعا في ذلك، أن يحتفظوا لأنفسهم بخاصة تميزهم من غيرهم؛ فالثقافة هي عين الوجود والتميز فيها مناط التفرد، ليست سبيل انغلاق ولا تخاذلا منهزما، والشعر العربي العمودي يعطيك فسحة القول في إطار منضبط، وهو سجل تاريخها وموضع فخارها، تلتمس فيه أماكن وجودها، ومنابت رعيها.
ولأن الشعر هو ديوان العرب؛ كانت لوثة “مرجليوث” وتابعه “طه حسين” افتراء انتحال، وادعاء تخليط، كانت تلك أولى السهام؛ لتنال من الفكر العربي، وتطعن في الرواية، تلبي عند ثعالب الغرب حاجة، وتشيع مقالة السوء!
وما انتهت تلك العشواء، حتى انتقلت إلى ميادين الفقه والسنة، تطعن في الرواة، وتتركنا في عارية مستقبحة، بالهجوم على الشعر العربي، ومحاولة استجلاب نمط مغاير، أراه توابع الانهيار الفكري والأخلاقي، حتى غدا الشعراء الأصلاء محل استغلاق، وموضع استهجان!
وما أرى العرب بغير القرآن الكريم فكرا ومعتقدا وسلوكا؛ لغة ترتقي وبيانا يسمو، وذائقة تقول فتبدع!
أما الضعف اللغوي والانحدار القيمي، والانتحار المجتمعي؛ فمرده جفاء القريحة وموات العاطفة!
أين منا أبيات أبي تمام، ووصائف البحتري، وشاعرية المتنبي، نعم في “الحر” فرائد للسياب، وبكائيات “نازك الملائكة” ولافتات “أحمد مطر” لكن لو أمعنت تجدها من العمودي إن وضعت في نظامه ونظمه!
“الشعر ديوان العرب”.. مقولة ما انفك الزمان يرددها، تعاد كلما ألمّت بالعرب النوائب أو نالت منهم الدواهي!
ليكن لمن أراد القول ميدانه، وألا يمنع من هزج ورجز، لكن امنعوه أن يسمي تلك الدواهي أشعارا، ليقل عليها ما يحب، وهل يصدق عاقل أن الحجر در؟!
تعرب القوم فغدا فيهم ابنا “جنى والرومي”، بل كل ابن أم ولد، حتى لزموا اللسان العربي خاصة نفوسهم ومنطلق أفئدتهم، أما أن يأتي اليوم دارس لنص مترجم، أو ساع لاهث بين أقبية “هارفارد” أو “سربون” فيمسح عارضيه منتشياً لأنه جمع بعض قول فينال من ثناء مدخول يغريه فهي مدحة الأغرار الذين خلا وفاضهم من الشعر وموسيقاه التي أبدع الخليل بن أحمد الفراهيدي في حصرها في ستة عشر بحرا.. هذه صورة اللغة حين تجد مبدعين يترنمون بفنها الأول تغريدا وشدوا، ولا غير النابهين من بني قومنا يبدعون ويتميزون.