كما كان متوقعاً، لم تحصد مصر دعمًا كافيًا لتبني مجلس الأمن مشروع قرار يطالب إثيوبيا بتعليق الملء الثاني لسد النهضة، وأظهرت دول، على رأسها روسيا والصين وفرنسا، رفضاً واضحاً للمطلب المصري.
فبعد مناقشات دامت لساعات، أيد أعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة جهود الوساطة التي يجريها الاتحاد الأفريقي بين الدول الثلاث، وحثوا جميع الأطراف على استئناف المحادثات.
لكن لم يتوصلوا بشكل واضح لحل للمشكلة، كما أنه لم يتم الإعلان عن موعد التصويت على القرار الذي تقدمت به تونس لمجلس الأمن بالنيابة عن مصر والسودان، الذي يدعو إلى التوصل إلى اتفاق ملزم بين الدول الثلاث بشأن تشغيل سد النهضة خلال 6 أشهر تحت رعاية الاتحاد الأفريقي.
عدم وصول المجلس لاتفاق حول مشروع القرار المصري –الذي قدمته تونس عضو مجلس الأمن- وتأجيل الرد للأسبوع المقبل، معناه أنه لم يعد أمام مصر سوى 3 خيارات، هي: اللجوء لتخريب السد باعتبار أن إثيوبيا هددت أمن مصر، أو دعم مطالبة السودان باستعادة إقليم بني شنقول المقام عليه السد، أو الانتظار للملء الثالث للسد 2022 ومحاولة التفاوض مرة أخرى مع إثيوبيا خلال هذه الفترة.
جاء موقف أعضاء مجلس الأمن فاتراً وغير متحمس لدعم مطالب مصر والسودان، للمرة الثانية؛ ففي العام الماضي حين طالبت مصر من المجلس التدخل، لم يرد على الطلب المصري، وصدرت تصريحات من أعضاء دول كبرى بما فيها أمريكا تنصح مصر والسودان بالعودة للتفاوض مع إثيوبيا عبر الاتحاد الأفريقي و”حل مشكلاتهم فيما بينهم”.
السفير ماجد عبدالفتاح، رئيس بعثة الجامعة العربية، أكد بدوره أن “رسالة مجلس الأمن لم ترتقِ لمسألة إدانة الملء الثاني؛ فهو طالب الجانبين بالتوقف عن الأعمال الأحادية”، حسبما قال لقناة “أم بي سي مصر”، مساء أمس الجمعة.
الملء الثالث
وفقاً لتوقعات خبراء الري المصريين، سيتم بذلك ترحيل السقف الزمني للحل ليكون بين الملء الثاني (الحالي) والملء الثالث (يوليو 2022).
وقد رجح مصدر بوزارة الري المصرية أن تلجأ مصر لسيناريو الانتظار للملء الثالث عام 2022 بعد جلسة مجلس الأمن الأخيرة، وأوضح أنه “من حُسن حظ مصر أن إثيوبيا لم تتمكن من استكمال بناء السد وتعليته بما يسمح لها بالملء الثاني في يوليو الجاري 2021، وستضطر لإكماله في الملء الثالث العام المقبل”، وتابع: الملء الثاني لم يكتمل إلى 13.5 مليار متر مكعب (تضاف إلى 5 في الملء الأول لتصبح 18.5 مليار) وما نتوقعه هو ملء 4 مليارات فقط لعدم اكتمال تعلية السد (أي بإجمالي 9 مليارات بدل 18).
هذا معناه أن مصر أمامها وقت (سقف زمني أخير) حتى الملء الثالث في يوليو 2022 للتفاوض أو أخذ موقف حاسم من الآن لمخالفة إثيوبيا قواعد الملء دون إخطار دولتي المصب والسعي لفرض إرادتها عليهما.
لو اتبعت مصر هذا الحل فسيواكبه استمرار الضغط العسكري والدبلوماسي والتصعيد التدريجي، ليس بالتهديد بتدمير السد، لكن التهديد بإعادة ضم إقليم بني شنقول للسودان باعتباره جزءاً من أرضها لو استمرت إثيوبيا في رفضها لاتفاقية 1902 والحديث عن تقاسم المياه.
ورقة “بني شنقول”
محللون مصريون يرون أن العدوان على حصص مصر والسودان في مياه النيل والانفراد بالملء هو مخالفة لاتفاقية عام 1902 ولاتفاق “إعلان المبادئ” الموقع عام 2015 ويجعل من حق مصر والسودان التحرك لاستعادة إقليم بني شنقول، ويرون أنه مثلما تحججت “إسرائيل” بأن إغلاق المضايق وحرمانها من الملاحة في البحر الأحمر هو إعلان حرب ومخالفة لاتفاق وقف النار، وحاربت مصر، واحتلت سيناء؛ فمن حق مصر الآن أن تفعل الشيء نفسه مع إثيوبيا مع فارق الحالتين.
وقالوا: إن اتفاقية عام 1902 تضمنت اعتراف إثيوبيا بحصة مصر والسودان في النيل مقابل تسليم ممتلكات (سودانية-مصرية) بينها بني شنقول التي بني فوقها “سد النهضة”، وسكانها يعتبرون أنفسهم سودانيين، وهناك حركة تمرد مسلحة ضد الاستيطان الأمهر.
وبالتالي: “لو تنكرت إثيوبيا لاتفاقية عام 1902 التي تضمن حصة مصر والسودان المائية، كما بدأت تعلن رسمياً، فمن حق السودان المطالبة بهذه المنطقة”.
اتفاق المبادئ
مصريون ما زالوا ينتقدون حكومتهم، ويرون أن الحل هو الانسحاب من “اتفاق المبادئ” الذي وقعه الرئيس عبدالفتاح السيسي مع إثيوبيا وسمح لها بالبناء، ويرون أن اتفاق المبادئ الذي وقّعته الدول الثلاث، في مارس 2015، بات أكبر حجر عثرة أمام أي تصرف مستقبلي لمصر، إذا استقرت على ضرورة استخدام القوة، أو الحلول التصعيدية، أو حتى الاعتراض على مسار تفاوضي معين.
وتستند إثيوبيا إلى البند الثاني من هذا المبدأ لتبرر لنفسها وللعالم أن القواعد التي يجب الاتفاق عليها لا يمكن اعتبارها ملزمة بأي حال؛ لأنها موصوفة في الاتفاق بأنها “استرشادية”، فضلاً عن كونها غير مقتصرة على خطة واحدة يجب اتباعها، فهي بحسب النص “ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد”.
كما يحمل البند نفسه نصاً آخر لا يخدم الأهداف المصرية؛ فهو يتحدث عن “الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد الملء الأول لسد النهضة التي ستشمل كافة السيناريوهات المختلفة، بالتوازي مع عملية بناء السد”؛ وهو ما اعتبرته إثيوبيا سنداً قانونياً لتنجز الملء الأول بالفعل، ثم لتبدأ الملء الثاني بالتوازي مع المناقشات، ما دام السد لم يكتمل بناؤه، وأخطرت بذلك مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي.
كما يتضمن هذا المبدأ بنداً آخر تفسره إثيوبيا لصالحها فقط، هو “الاتفاق على الخطوط الإرشادية وقواعد التشغيل السنوي لسد النهضة، التي يجوز لمالك السد ضبطها من وقت لآخر”.
لذلك ترى إثيوبيا أن مصر اعترفت بتوقيعها على هذا البند بالسيادة المطلقة لها على السد، وترفض مشاركة مصر والسودان في تحديد قواعد التشغيل طويلة الأمد، إلا في حدود التأكد من “عدم الإضرار”، باعتباره مبدأ منصوصاً عليه في الاتفاق ذاته.
ويسمح المبدأ السابع لإثيوبيا بالتلاعب في مواعيد إرسال البيانات المطلوبة لمصر والسودان وكذلك حجمها، بحديثه عن “التوقيت الملائم” لإرسالها، من دون تقيّد بمواقيت خاصة في مراحل الملء والتشغيل.
كما يتيح المبدأ الثامن لإثيوبيا التصرف كما تشاء على مستوى ضمان أمان السد، مكتفياً بأن يكون هذا “بحسن نيّة” من دون ضغوط من دولتي المصب، بينما المبدأ العاشر الذي يفتح باب الوساطة الدولية الملزمة يتطلب أيضاً “اتفاق الدول الثلاث على ذلك”، وهو شرط أثبتت التجارب العملية استحالة توافره، خاصة بعد فشل جولة الوساطة المطولة التي عقدت في واشنطن مطلع عام 2020 وأسفرت عن توقيع مصر منفردة على مشروع اتفاق.
وفي كل الأحوال لن تترتب على مصر أو السودان، بحال الانسحاب، أي التزامات أو عقوبات؛ لأن الاتفاق تم بمعزل عن القوانين الدولية ذات الصلة، كما أنه لم تترتب عليه أي ثمار عملية يمكن التراجع عنها؛ فكل ما جرى على ضوئه لا يتجاوز مرحلة العمل التحضيري لاتفاق تلهث خلفه دولتا المصب وتتنصل منه دولة السد.
موقف الاتحاد الأوروبي
الموقف الأوروبي هو الوحيد الذي ظهر كموقف إيجابي مع مصر بعد صدور بيان للاتحاد الأوروبي ضد الملء الثاني المنفرد للسد؛ وهو ما يجعل المصريين متفائلين بممارسة ضغوط أكبر على إثيوبيا.
وقال المتحدث باسم الدائرة الدبلوماسية للاتحاد الأوروبي بيتر ستانو: إن “الاتحاد الأوروبي يأسف لإعلان إثيوبيا عن الملء الثاني دون اتفاق مع شركاء المصب”، مؤكداً أن “الإجراءات أحادية الجانب لا تساعد على إيجاد حل تفاوضي لأزمة سد النهضة”.
وأضاف أن “الاتحاد الأوروبي يدعو جميع الأطراف المعنية إلى استئناف المفاوضات والمحادثات التي يقودها الاتحاد الأفريقي”.
ولفت إلى أن “هناك حاجة ملحة لخارطة طريق واضحة ومتفق عليها تحدد أهداف مفاوضات سد النهضة وإطارها الزمني”.