في مارس دعا مجلس حقوق الإنسان الدول المشاركة لتبني مشروع قانون خاص بتوزيع عادل للقاحات، للقضاء على ما سمّاها مندوب الإكوادور “أليخاندرو دابالوس” بالعوائق والفجوات، التي رُسمت على أسس قومية بحسب ما صرح به مدير منظمة الصحة العالمية “تيدروس غيبريسوس”. ومع تنوع اللقاحات واحتكار المنتجين لها دون مراعاة التجربة الحرجة للجنس البشري مع فيروس كورونا، واستكثار الغرب دعمه للمناطق التي تنتشر فيها الأزمات والحروب، عكفت أنظمة على تعزيز صفقات التسليح بمليارات الدولارات غير آبهة بالتحديات المستجدة لتحوّرات كوفيد-19، معرضة سلامة الإنسان وأمنه الصّحي إلى مخاطر يصعب تحديد نتائجها.
يجدر الذكر أنّ الدروس الممنوحة للبشر جراء تغوّل الطبيعة نحو عوالمهم لم تكن سوى جرعة في سلسلة الإرباكات المتتالية، الغرض منها إعادة تأهيلٍ للحضارة بسبب ما اقترفته يد الإنسان وطموحاته في تحقيق الرفاه والثروة.
التزاحم الحذر.. عن الطبيعة والإنسان
تتسابق الشركات العلمية المنتجة للمواد ذات الاستهلاك البشري لفتح أسواق جديدة بغية الحصول على مستهلكين دائمين لزيادة أرباح استثماراتها، ولجلب المستهلك الوفي والدائم ابتكرت الشركات الكبرى علامة أو شعارا تختم بها غلاف منتوجاتها، كانت عبارة طبيعية إلى وقت غير بعيد لا يُنظر إليها بعين الاعتبار مع تسارع العالم الصناعي لاستحداث أسواق خارج مجاله الجغرافي، إلا أنّه في وقتنا الحالي تبدو العبارة أكثر تأثيرا وجلبا للمستهلكين مع ما فرضته من إغراءات لتعزيز صحة الإنسان، بل إنّ البعض منح قدرا من الطمأنينة والرضى عن علاقة الإنسان وتأثيرات نشاطه الصناعي على البيئة، وللحد من انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون والتصدي للاستغلال الجشع للطبيعة، كان على البشر أن يغيّروا من سلوكياتهم وثقافتهم الاستهلاكية المرهقة، والبدء باستخدام منتجات طبيعية تم الترويح لها على أنها صديقة للإنسان والبيئة.
ظلت علاقة الإنسان بالطبيعة تخضع لمتغيرات وفق احتياجاته ورغباته الملحة، غير أنّ الطبيعة مع ما ابتكرته من تحوّلات وقطع متجاورات كانت تفرض نوعا من القوانين الموضوعية الملزمة للجنس البشري، تلك القوانين وإن لم تكن على قدر من السّكون أو الثبات، إلا أنّها أثبتت وبكل جدارة مدى تغول الطبيعة واستحواذها على العالم البشري، ومهما سعى الإنسان لترويضها وبسط نفوذه عليها واستخلاص ثرواتها، تتكرر معاناته مع طموحاته في تحقيق الأفضلية بين الأجناس الحيوانية؛ فالطبيعة ذاتها تكونت من متغيرات وعوامل لتنتج هذا التضاد والاختلاف، ومع أنّها لا تبدو ثابتة فقد اجتراها الزمان واستعارها المكان كي تمنح تنوعا لحظيا وتكاملا أزليا غير آبه باستمرارية جنس معين من مكوناتها، إلا أنّ الإنسان وإن لم يعد يُقدس الطبيعة كونها آلهة تَهَبُه الخلاص والغُفران، بات قربانها الذي لم تمنعه تجاربه المؤلمة عبر تاريخ لخّصته الحروب والصراعات والأمراض.
يسطو البشر على ما يعتبرونه استمرارية لحضارتهم الصناعية والثقافية المبهرة، وهم بذلك إنّما يسطون على مستقبل غيرهم كونهم يغيّرون السلسلة الطبيعية لدورة الحياة، فبدل الماء العذب أصبحت المشروبات الاصطناعية ذات النسب الطبيعية المتفاوتة، تتخذ لها أماكن عديدة في الأسواق والبيوت وغيرها من أماكن الترفيه اليومية، وتحوّل معها الصناعي إلى طبيعي ذي نسب تُظهر التفاوت الاجتماعي والاقتصادي للمستهلكين، وحينما تتوجه الاتهامات للمنتجين بحجم الانبعاثات والنفايات المخربة للتنوع الحياتي، تُعلن بعض الشركات الكبرى عن مجموعة إعانات لمنظمات حماية البيئة وملتقيات مكافحة الاحتباس الحراري.
أصبح الطبيعي وفق متطلبات ورغبات الإنسان هو ذلك الحجم الهائل من المصانع والمحلات التجارية وأسواق المضاربات التي تعيد تدوير فوائض الاستغلال المالي للتنوع البيئي، لا بالقدر الكافي الذي يسمح للبشر أن يستمروا ضمن حضارة إنسانية تهادن الطبيعة وتعزز من تنوعها، كما أنّ ذلك المنتج الثقافي والهوياتي مانح للأقليات عبورا مهيمنا على التنوع الاجتماعي، فما استخلصه الإنسان من قيم مشتركة وديمقراطية مفعلة وحقوق إنسان، باتت حمّالة أوجه تزيح عنها التزام الإنسان الأخلاقي تجاه ذاته ومجتمعه.
ومع المطامع المتزايدة للذات التي لا ترغب في تحقيق سلام لها، أنها تزيد من تعاسة مجتمعات تهددها الآفات والأوبئة والكوارث الطبيعية وهي قابعة تحت خط الفقر، وكان بإمكان البشر أن يساهموا في ترقية الطبيعي لا تحويره صناعيا ضمن سلسلة منتجات ثقافية وهوياتية مسرطنة، لكنهم آثروا الثروة مقابل تهجير وتفقير ملايين من البشر. ولا ينتهي الصراع بين الإنسان والطبيعة على حدود الكوارث والأوبئة، فثمة حروب أخرى من داخل النفس البشرية تدعوه لإعادة جرد طبيعته وماهيته، والتفكر في التحديات التي اختلقها لعالمه وهو يرسم لوحة حضارية تفتقد للجوهر والروح الإنسانية؛ فالحقيقة التي لا مناص عنها كونها تعبيرا صريحا لإرادة تفوق استيعاب البشر لذواتهم، هي أنّ الفاصل بين الطبيعة والإنسان هو الرغبة في تحقيق ما ظنّه سعادة تزيح عنه هواجس كثيرة، منها خوفه من مستقبل تتجسد ملامحه على سرير ألقي عليه جسد يتجرع مرارة عجزه وهوانه، حيث يتوارى خلف أسطورة المهيمن على الأشياء والطبيعة من دون منازع.
الطبيعي الاستثناء.. متحوّرات الحضارة الإنسانية
كان انكفاء الدول على ذاتها وغلق حدودها أحد أهم تأثيرات جائحة كورونا المستجدة، ضمن وضع استثنائي أثبت أنّه لا يمكن احتواؤه أو إدارته، إلا بالحد من حريات الأفراد والمجتمعات وفق لوائح صحية تتأسس بموجبها مجموعة قوانين ملزمة، بل إنّ الخصوصية في علاقات الناس مع بعضهم البعض جرفتها مخاوف انتشار الفيروس وتحوّراته المخيفة، ولعل استقالة وزير الصحة البريطاني “مات هانكوك” إثر فضيحة تقبيل زميلة له لم تأت بدواع أخلاقية أو سياسية، بل قُدمت الاستقالة على أنها استهانة بقواعد التباعد الاجتماعي المنصوص عليها، فالغرب تجاوز الطبيعي في العلاقات البشرية نحو تدجين هويات عابرة برزت من خلالها مجتمعات مغايرة، وثقافات دخيلة على الطبيعة البشرية تم استنساخها كما لو أنّ مصنعا أعاد تدوير نفاياتها البلاستيكية للاستهلاك الآدمي، كما أنّ أسباب الاستقالة تبدو ساذجة في وقت تتسابق فيه المملكة المتحدة لإعلان تقدمها في تطعيم شعبها بالكامل، إلا أنّ حادثة الاستقالة لخصت أهمية المنتوجات الثقافية والهوياتية لدى الحضارة الغربية كونها تحفظ الحريات وتدعم الديمقراطيات وتحمي حقوق الإنسان، كي تبدو منتوجات طبيعية مفعمة بالإبداع والابتكار، في حين أنّها تفتقد لأدنى التزام أخلاقي تجاه المغيبين تاريخيا وحضاريا بواقعهم المتردي والمتأزم.
تكمن المشكلة في المنتوجات الأخلاقية التي صبغتها الحضارة الغربية بالحرية والتنوع الإنساني، أنّها حوّرت وفق المصالح الإمبريالية للدول المصنعة المهيمنة، وما كان ضروريا وطبيعيا للجنس البشري كرّسته التحوّلات الجارية في المجتمعات الغربية كي يمسي ملزما تحت مظلة عولماتية، نتحدث عن الحرية والديمقراطية كمنتوجين أحيلت قيمتهما إلى نوع من المضاربة اللاأخلاقية تتوقف عندها المصالح الذاتية للمهيمنين، وبدل أن تتجسد الحرية في الغرب باتت مخاوف الهجرة غير النظامية من الضفة الجنوبية للعالم هاجسا يُلبس الغرب ثوبه الحقيقي من العنصرية، كما أنّ الديمقراطية التي تستعيد تمثيلها بنسب الأغلبية لا تجد قبولا لدى الرعاة الرسميين للأطراف في حالة تصدر حركة اجتماعية مقاومة تدعو لحماية الحقوق والثروة المحلية.
أما على مستوى حقوق الإنسان والتي تم تطويعها وترويضها، فثمة معضلة منشؤها القوانين غير الملزمة للأعضاء المؤسسين لمجلس حقوق الإنسان، وتفاوت المعايير الأخلاقية بين الأهداف المشروعة وما يجب اعتباره بالضحايا المدنيين، يظهر ذلك جليا في الحروب التي يقودها ويدعمها الغرب تحت ذريعة نشر الديمقراطية ومكافحة الإرهاب، ففي أفغانستان والعراق لا تقف حقوق الإنسان عاجزة عن مساءلة التغوّل الأميركي وآلته المدمرة فحسب، بل مغيبة وتائهة في أروقة التوصيفات السياسية للأحداث، فالقتل العمد ما هو إلا رد فعل على المقاومة المشروعة التي تواجه الاحتلال في نظر الأميركيين، والفوضى السياسية والاجتماعية في أفغانستان ما هي إلا ديمقراطية تحميها القواعد العسكرية، علينا أن نستذكر كيف أنّ الغرب الذي يزعم تفانيه في حماية مواطنيه، تغاضى تغاضيا مخزيا عن جريمة مقتل الناشطة الحقوقية والصحفية الأميركية “راشيل كوري” تحت الجرّافات “الإسرائيلية” أمام عدسات العالم، فهل تحركت المحكمة الجنائية الدولية ضد القتلة وداعميهم، أم أنها رضخت لضغوطات الصهيونية؟
ما زالت تداعيات فيروس كورونا تدق أجراس الخطر على عالمنا، وما زال الإنسان يحيك لنفسه لباس الخوف والجوع وهو يقتات على ما استحدثته حضارته، وما كان خصوصية اجتماعية بات وفق المادية الغربية طبيعة بشرية تتجاوز كل ضرورة تاريخية فرضت على الإنسانية إعادة تأهيل حضارتها، من أجل ذلك تمنحنا الطبيعة أملا في استرداد هويتنا المفقودة في أبراج تعالت أصوات القهر منها حينما تداعت المنظومات الصحية أمام الجائحة، بل إنّ رائحة الموت تناقلتها وسائل الإعلام بأرقام مهولة لا تكفي توابيتها حفّاري القبور، علينا أن ندرك أنّه ما من حضارة افتقدت لجوهر يعزز تماسكها واستمرارها، إلا كان الإنسان أولى ضحاياها ليمهد بعد ذلك لزوالها واندثارها.
_____________________________________________
* كاتب جزائري. والمقال منقول من “مدونات الجزيرة”.