المتتبع لنصوص القرآن والسُّنة يجد أن أعظم الأعمال أجراً، وأحبها إلى الله تعالى هي الأعمال التي يتعدى نفعها للغير؛ فالذي يصوم النهار ويقوم الليل مأجور عند الله تعالى ومشكور، لكن صيامه وقيامه لا يستوي عند الله تعالى مع من يسعى بين الناس باذلاً الخير لهم، وراسماً البسمة على وجوههم، ولا يألو جهداً في قضاء حوائجهم؛ ففي الحديث الذي رواه الطبراني عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَحَبُّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ أَنْفَعَهُمْ لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ سُرُورٍ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكْشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دِينًا، أَوْ تُطْرَدُ عَنْهُ جُوعًا، وَلِأَنْ أَمْشِيَ مَعَ أَخٍ لِي فِي حَاجَةٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَعْتَكِفَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، -يَعْنِي المَسْجِدَ النبوي-، شَهْرًا وَمَنْ كَفَّ غَضَبَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ كَظَمَ غَيْظَهُ وَلَوْ شَاءَ أَنْ يُمْضِيَهُ أَمْضَاهُ؛ مَلَأَ اللَّهُ قَلْبَهُ رَجَاءً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى يُثَبِّتَهَا لَهُ ثَبَّتَ اللَّهُ قَدَمَهُ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ».
في هذه الأيام المباركات أنا على يقين أنه لن يبيت فقير يطوي ليلته من الجوع؛ فالكل عنده ما يكفيه ويغنيه –خاصة أيام العيد- ببركة سخاء أيديكم ونفوسكم، لكن حاجة اليتيم والفقير والمسكين إلى المواساة بالكلمات الطيبة لا تقل عن حاجتهم إلى الطعام والشراب؛ فكم من يتيم بات شبعانَ، لكنه أوى إلى فراشه ودمعه يجري على خديه مدراراً، لأنه لا يجد من يواسيه ويؤنسه، ويعوضه مرارة الفقد والحرمان، وكذلك الأرملة والفقير والمسكين كل منهم يتلهف لسماع الكلمة الطيبة التي تخفف عنه وطأة السؤال وذل الحاجة وانكساره وهو يمد يديه لأهل الإحسان، ترى كم سيكلفك الأمر من جهد وعناء حينما تحمل بعض الهدايا والحلوى تنثرها مع الكلمات الطيبة مع من تتفقدهم بالسؤال من اليتامى والفقراء والمساكين؟! وماذا لو تضافرت جهود المحسنين في كل حي وقاموا بحصر أسر الأيتام وخصصوا لهم يوماً يخرجون فيه إلى أماكن الترفيه مع زوجاتنا وأولادنا؟! فأي بركة ستحل علينا وأي رقة ستعلو القلوب؟!
الإحسان إلى اليتيم والمسكين بمواساتهما وملاطفتهما يحيي القلوب الميتة ويرقق القلوب القاسية فضلاً عن الثواب من الله
فريضة وليست فضيلة
إن الرحمة باليتيم والإحسان إليه وإلى الفقير والمسكين فريضة وليست فضيلة، وحسبنا أن الله جل في علاه أمر بالإحسان إليهم في نفس الآية التي أمرنا فيها بطاعته وعبادته فقال جل في علاه: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً) (النساء: 36).
إن من ثمرات الإحسان إلى اليتيم والمسكين بمواساتهما وملاطفتهما -فضلاً عما أعده الله من الثواب الجزيل في الآخرة- أنه يحيي القلوب الميتة، ويرقق القلوب القاسية، والعواطف المنحرفة يجعلها تستقيم؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: جاء رَجُلٌ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو قَسْوَةَ قَلْبِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَتُحِبُّ أَنْ يَلِينَ قَلْبُكَ؟»، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «فَأَدْنِ الْيَتِيمَ إِلَيْكَ، وَامْسَحْ بِرَأْسِهِ، وَأَطْعِمْهُ مِنْ طَعَامِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُلَيِّنُ قَلْبَكَ، وَتَقْدِرُ عَلَى حَاجَتِكَ»
يقول الشيخ محمد الغزالي: “القلب يتبلد في المجتمعات التي تضج بالمرح الدائم، التي تصبح وتمسي وهي لا ترى من الحياة غير آفاقها الزاهرة، ونعمها الباهرة، والمترفون إنما يتنكرون لآلام الجماهير؛ لأن الملذات التي تُيَسَّرُ لهم تُغَلِفُ أفئدَتَهم وتطمس بصائرهم، فلا تجعلهم يشعرون بحاجة المحتاج وألمِ المتألم وحزنِ المحزون. والناس إنما يرزقون الأفئدة النبيلة والمشاعر المرهفة، عندما يتقلبون في أحوال الحياة المختلفة ويبلون مسَّ السراءِ والضراء، عندئذ يحسون بالوحشة مع اليتيم، وبالفقدان مع الثكلى، وبالتبعة مع البائس الفقير”(1).
عبادة وقربة
ادخلوا على الله تعالى من باب “جبر الخواطر” فهي عبادة وقربة من أعظم القربات يغفل عنها كثير من الناس، وقد “ما رأيت عبادة يتقرب بها العبد إلى ربه مثل جبر خاطر أخيه المسلم”.
كن على يقين أن اليتيم أو الفقير والمسكين سرعان ما ينسى نوع الطعام الذي قدمته له، لكنه لن ينسى أبدا بشاشة وجهك، وتلطفك معه في قولك، ولن ينسى كلماتك الطيبة التي يحفرها في قلبه، لن ينسى حديثك ومسامرته، لن ينسى أبدا تواضعك، وحسن خلقك ولين جانبك.
في الحديث الذي رواه البيهقي والدار قطني قال صلى الله عليه وسلم: “اغنوهم في هذا اليوم” أي يوم العيد.
المسكين سرعان ما ينسى نوع الطعام الذي قدمته له لكنه لن ينسى أبداً بشاشة وجهك وتلطفك معه في قولك
فهمت من كلام رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أن الإغناء في هذا اليوم –أيام العيد– لا يقتصر على إغناء فقراء الجيوب بإغداق المال عليهم فحسب، لكن يتسع المعنى ليكون الإغناء للقلوب المنكسرة ببذل مشاعر الود والحب بإخلاص وصدق.
ولنتذكر قول الله –سبحانه وتعالى-: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُه}، فالله سبحانه سيجود عليك من جنس ما تعطيه وتبذله، والأمر لا يقتصر على نفقة المال فحسب، فهناك من ينفق من وقته وراحته، وهناك من يجود بالكلام الطيب وبشاشة الوجه. وتعلق النفوس بمن يجود عليها بالكلام الطيب وصاحب الخلق الحسن أشد من تعلقها بمن يغدق عليهم الذهب والفضة، وقد ورد في الأثر “من لانت كلمته وجبت محبته”.
الجزاء من جنس العمل، وما تقدمه وما تنفقه من خير سيكون لك عوضا من جنسه في الدنيا، لكن شتان بين عطاء العبد وعطاء الرب!
يقول صاحب الظلال: “إن هذا الدين ليس دينَ مظاهرٍ وطقوسٍ، ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر، ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد، مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح، وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى.
كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة، يؤدي منها الإنسان ما يشاء، ويدع منها ما يشاء. إنما هو منهج متكامل، تتعاون عباداته وشعائره، وتكاليفه الفردية والاجتماعية، حيث تنتهي كلها إلى غاية تعود كلها على البشر.. غاية تتطهر معها القلوب، وتصلح الحياة، ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء.. وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد”(2).
كل عام أنتم من الله أقرب وعلى طاعته، وأسأل الله تعالى أن يتقبل طاعتكم وصالح أعمالكم.
_______________________________
(1) خلق المسلم للشيخ الغزالي، ص 196.
(2) تفسير الظلال 6/ 3985.