لماذا يكره الطغاة الإصلاح والمُصلحين؟ سؤال يتكرر في الأذهان، دون أن نجد له جواباً، فعلى مر تلك العصور رأينا صدامًا حادًا يجمع بين الحكام والمُصلحين، ابتداءً بالإمام الحسين مع الدولة الأموية، وصولاً إلى جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وانتهاءً بسيد قطب، وغيرهم.
ولكن إذا ركزنا على الأسباب سنجدها تكمن في خوف الحاكم من مأزق السؤال، فكيف للحاكم الذي يملك ويحكم -في عالمنا العربي- أن يقف أمام الشعب أو الممثلين عنه، فتُطرح عليه الأسئلة، وأولها سؤال: من أين لك هذا؟
فبماذا سيجيب الحاكم؟ الذي ترسخ في ذهنه على مر قرون أنه “ظل الله في الأرض”؛ بل وتطور الأمر ببعضهم أن يروا في أنفسهم تلك النجدة الإلهية أو الإغاثة التي أرسلها الله إلى الناس، فيرى الواحد منهم -الحاكم- أنه صاحب جميل على الشعب، وأن الشعب مدين له؛ فلا يصح بأن يُسأل عما يفعله، فهو في ظنه وفي ظن أتباعه “ظل الله في الأرض”!
ويعود ذلك إلى السبب النابع من نرجسية الحاكم وقوقعته السلطوية التي يقبع بداخلها، فيرى أنه مركز الكون، أو أنه خرج لتوه من دائرة الحياة ليكون مركزها الذي يستقطب الناس حوله، فلو سقط المركز سقطت الدائرة، ولهذا السبب يشرع بعض الحُكام في إخراس الأصوات المُعارضة، خاصة لو كانت تلك الأصوات داعية إلى التجديد والإصلاح.
كما حدث مع الأفغاني، الذي ظل طوال حياته داعيًا إلى الإصلاح، ومُناديًا بنهضة وتحرر الأمة الإسلامية من تحت عباءة الاستعمار، آملاً أن تنال تلك الأمة المكلومة بعضًا من الميزات الديمقراطية في يوم ما، وكانت تلك الدعوة التي سعى الأفغاني بها لا تروق مسامع الطغاة، فكان مصيره السُّم!
ومن بعده جاء تلميذه محمد عبده، الذي استنهض قيم العلم وجدد الخطاب، وسعى لقول الحق، فكانت مُصادمته الأشهر مع الخديو عباس حلمي الثاني، بعد نشر مقالة له بعنوان “آثار محمد عليّ في مصر”، انتقد فيها سيرة الباشا بمناسبة مرور 100 عام على ذكرى توليه حكم البلاد؛ فكان مصير الإمام أن يُعزل من منصبه، ويُرمى في المنفى، إلى أن وافته المنية جراء إصابته بالسرطان.
وكذلك ما لحق بتراث المُصلح القرميّ إسماعيل غسبرنسكي الذي -مع الأسف- يكاد بعض شبابنا لا يعرفون عنه شيئًا، نظرًا لما قام به الاتحاد السوفييتي من محاولة طمس أفكاره وآرائه تحت ذريعة الانتقام البروليتاريّ.
والقائمة تطول بأسماء العلماء والمفكرين المُصلحين الذين سعوا لإصلاح ما أفسدته يدُ السياسيين، ولكن ماذا سيحدث إذا تعذرت كل سبل الإصلاح، سواء بقمعها أو تشويهها وإخراس أصحابها؟
بالتأكيد سيقع القدر المحتوم الناتج عن ذلك القمع، والقدر هنا أي “الثورة”!
وقد ترجم البعض كلمة “ثورة” في أذهان العامة على أنها تُرادف “الفتنة”، أي أن حدوثها يعني بالضرورة جلب الفوضى والدمار على البلاد، ولكنهم نسوا أن تلك الفوضى الناتجة عن الثورة -إن حدثت- فما هي إلا رد طبيعي على تعذر الإصلاح، وقمعه من قِبل الحاكم، الذي حرم شعبه من أبسط معاني الحرية؛ كالتعبير عن الرأي والنقد، وبالتالي أفقده فلسفة الثورة ومعنى النظام، فحدثت الفوضى.
يقول الداعية المُصلح سلمان العودة، في كتابه “أسئلة الثورة” الذي كتبه تزامنًا مع ثورات “الربيع العربي”: “لا يوجد ما يدعو إلى تشجيع الثورة بذاتها؛ فهي محفوفة بالمخاطر، ولكنها تأتي مثل القدر حينما يتعذر الإصلاح”.
ثم يقول في نفس الكتاب: “فالثورة لا يرتب لها أحد ولا يُخطط لها الناس، ولكنها تنفجر على حين غرة، حين تنسد طرق الإصلاح، وتوقف عمليات العدالة، ويُمارس القمع”.
فلله در الشيخ، فقد لخص تلك الأزمة التي ما زال يختلف حولها المفكرون إلى يوم الناس هذا، فالثورة تحدث جراء السياسات التعسفية المُمثلة في عمليات الاعتقال والقمع المُمارس على يد الدكتاتور الحاكم، لينتهي الأمر بالشعب إلى مرحلة الفوران، وهي المرحلة التي يقول فيها الناس: “كفى، لقد طفح الكيل”! فتحدث الثورة.
ما الحل؟!
بجانب كل نقد لا بد أن يُقدم الحل؛ فما نقدي إلا غاية وراء الإصلاح، وأساس الحلول يكمن في يد الحاكم، أي أن الحاكم له أن يسبق الحدث قبل وقوعه، وأن يحل الأزمة قبل نشوبها، ففي عالمنا العربي عهدنا ألا نتعلم من أخطائِنا، وما أن تنشب نيران الأزمة فينا، إلا وتظل مشتعلة دون أن يُبادر أحد لإخمادها.
وأول تلك الحلول التي بيد الحاكم أن يقبل أولاً النقد، ويُحرر أصحاب الكلمة من سجونهم، ويفتح بابَ التعبير عن الرأي على مصراعيه، ويترك الطيور بآرائها تُحلق يمينًا وشمالاً.
ولتلخيص الفكرة نقول: إنه على الحاكم أن يدعه من فكرة مركزية الدائرة التي تسيطر على ذهنه، وأن يعود مجددًا إلى حلقتها، كعنصر من عناصرها، لا أن يكون هو المركز، ويجعل الإصلاح والتقدم هما مركز تلك الدائرة، ليستقطبا من حولهما جميع أطراف الشعب بمن فيهم الحاكم.
وليتحقق ذلك: على الحاكم أن يتراجع عن أفكاره التعسفية بشأن السجن والاعتقالات وترهيب المُعارضين، وتشويه صورتهم أمام الجماهير عملاً بسياسة “البروباجندا” ظانًا أنه بذلك يستقطب عامة الناس حوله، مُقنعًا إياهم أن الوطن يكمن فيه، بل عليه أن يأخذ بآراء المُصلحين والمُعارضين، ويقدمها للناس، هذا إن كان الحاكم ما زال صاحب فطرة سوية، وذلك نادر الحدوث، وعلى الحاكم أيضًا أن يعلم أنه ليس إلا موكلاً من قِبل الشعب، بل وخادمًا له، يسعى لإرضائه، وإصلاح أوضاعه، لا أن يقف مكتوف اليدين حائرًا تارة ومُهددًا أُخرى.
فلا فرق بين الحاكم والمحكوم، ولا سلطة للحاكم إلا في خيال المحكوم، فإن أدرك الحاكم ذلك، علم أن فكرة المركزية التي كان يطمح لها قد انهارت، وأنه ليس بمميز عن باقي الشعب في شيء سوى أنه موكلٌ من قِبله لولاية أمره، ولله درّ الشريف الرضي حينما قال:
مهلاً أمير المؤمنين فإننا *** في دوحة العلياء لا نتفرقُ
إلا الخلافة ميزتك فإنني *** عاطل منها وأنت مطوقُ!
في الأخير، ليس مقالي إلا خاطرة شاب يعيش في زمان حالك ووطن مُتأزم، ولا يرى من نفسه إلا مُذنبًا إن لم يُقدم النصيحة الغالية، التي وإن قصر مداها، في يوم ما يُسمعُ صداها، فأنا أحب قومي ووطني وأخشى عليهما الهلاك، وقومي هم الشباب، وأي هلاك حادث كالذي يتغمدنا اليوم؟ حيث الأيام الحالكة، والأحلام المسروقة، والأفكار المكلومة، فما العمل إذًا سوى النصح قبل وقوع الكارثة؟
_________________________________
(*) كاتب محاضر جامعي مصري، والمقال منقول من “مدونات الجزيرة”.