فجأة وبعد تجميدها 10 سنوات، سرعت القاهرة وتيره التحقيق مع المتهمين في قضية “التمويل الأجنبي” للمنظمات الحقوقية المصرية المعلقة وسط توقعات بغلق هذا الملف تلافياً لعقوبات أمريكية وأممية متوقعة بشأن ملف حقوق الإنسان.
وقالت مصادر سياسية مصرية إن تسريع التحقيق مع الحقوقيين الذي شمل تحقيق قاضي التحقيقات مع 4 من أبرز قادتها، خلال 4 أيام فقط، مع تبشير الحقوقيين بغلق القضية كلها خلال أسبوعين، ربما جاء أيضاً بغرض التمهيد لزيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لأمريكا سبتمبر المقبل 2021م.
وتعقد الأمم المتحدة في شهر سبتمبر المقبل الدورة العادية للأمم المتحدة التي يحرص السيسي علي حضورها وسط معلومات من القاهرة تشير للسعي لتجهيز لقاء بينه وبين الرئيس الأمريكي وأن زيارة مدير المخابرات عباس كامل الأخيرة لأمريكا يونيو الماضي جاءت في هذا السياق.
وفي سبتمبر المقبل أيضاً سيعقد مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة الدورة الثامنة والأربعون من: 13 أيلول/سبتمبر 2021 إلى: 1 تشرين الأول/أكتوبر 2021م والتي تشهد عادة انتقادات حادة لملف مصر الحقوقي، ويعتقد أن القاهرة تسعي لغلق ملف المنظمات الحقوقية قبله لتلافي الانتقادات.
وتتوقع مصادر مصرية أن يشهد الشهر ذاته إطلاق ما يسمي “استراتيجية حقوق الإنسان” الحكومية التي كان من المقرر أن يعلنها السيسي في يونيو وتأجلت ثم خلال مؤتمر حياة كريمة في يوليو 2021م وهو ما لم يحدث أيضاً، وتشير مصادر مصرية لإطلاقها قبل سفر السيسي لأمريكا لإظهار تحسين ملف مصر الحقوقي أمام الكونجرس وإدارة بايدن.
وقال مصدر حكومي لموقع “مدي مصر” 31 يوليو 2021م إن هناك اتجاهًا من الدولة لإغلاق ملف القضية 173 لسنة 2011م، المعرفة باسم «قضية منظمات المجتمع المدني» وأن هذا التوجه بات محل توافق من المؤسسات السياسية واﻷمنية، ولا ينتظر أكثر من “قرار سياسي”.
وتوقع المصدر الحكومي نفسه أن تتحرك الدولة لإنهاء هذه القضية -بصورة منفصلة عن التعامل مع المتهمين-قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، وبالتزامن مع اعتزام الدولة إطلاق استراتيجية حقوق الإنسان، التي كان مقررًا إطلاقها في منتصف يونيو، ثم تأجلت لنهاية يوليو، قبل أن يتم تأجيلها مجددًا إلى موعد غير معلوم.
عقوبات أمريكية
تسريع القاهرة من عملية إغلاق ملف قضية التمويل الأجنبي المفتوح من 10 سنوات جاء بالتزامن أيضاً مع تأكيد نواب في الكونجرس أن الإدارة الأمريكية ستقوم بالبت قريباً في مسألة احتجاز واشنطن 300 مليون دولار من أموال المساعدات الأمريكية لمصر لحين تحسين ملف حقوق الإنسان ووقف الانتهاكات ضد المجتمع المدني.
وكان ملف حقوق الإنسان أحد الملفات الهامة التي نوقشت في المباحثات التي أجراها مدير المخابرات العامة المصرية، عباس كامل، في واشنطن، خلال زيارة قصيرة يونيو الماضي التقى خلالها مسؤولين في مجلس الأمن القومي ومشرعين أمريكيين.
وربما تكون زيارة عباس تمهيد وجس نبض لإمكانية استقبال الرئيس الامريكي للسيسي على هامش مؤتمر الأمم المتحدة خصوصاً في ظل لعب مصر دوراً كوسيط في التهدئة بين المقاومة بغزة و”إسرائيل”.
وكان السناتور الأمريكي كريس مورفي قد وجه نقدًا لاذعًا لانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها الحكومة المصرية يوم 30 يوليو 2021م وحث إدارة بايدن على عدم التنازل عن قرار الكونجرس بتعليق جزء بسيط من المساعدات العسكرية السنوية للقاهرة.
https://twitter.com/ChrisMurphyCT/status/1421200673543176197
وانتقد مورفي في جلسة لمجلس الشيوخ الإعدامات الكثيرة في مصر التي جعلتها في المرتبة الثالثة بعد الصين وإيران وقال إنه يجب إلزام الدول التي تحصل على معونة أمريكية بالالتزام بقيم حقوق الإنسان.
وتقدم الولايات المتحدة 1.3 مليار دولار من المساعدات العسكرية لمصر سنويًا، وفي عام 2017م، منع الكونجرس الإفراج عن 300 مليون دولار من تلك المساعدات “ما لم تقلص القاهرة انتهاكاتها لحقوق الإنسان وتطلق سراح السجناء السياسيين”.
وتقدر منظمات حقوقية مثل هيومن رايتس ووتش أن حوالي 60 ألف شخص يقبعون في السجون المصرية بتهم سياسية، وقال مورفي: “من غير المقبول أن نقدم مليار دولار كمساعدة لمصر بينما هم يحتجزون حتى أمريكيين في سجون مصر بتهم سياسية.
وبعد شهر واحد من فوز بايدن برئاسة أمريكا في 6 نوفمبر 2020م، قام القاضي المصري المكلف بالتحقيق في قضية “التمويل الأجنبي” للمنظمات الأهلية، بتبرئة عشرات المنظمات من الملاحقة القانونية.
وفي أربعة مناسبات متتالية أسقط القاضي “علي مختار” المختص بالتحقيق في قضية التمويل الأجنبي الملاحقة الجنائية عن 63 منظمة مجتمع مدني و160 عضواً بها، آخرها حفظ التحقيقات مع 5 جمعيات أهلية في اتهامها بتلقي تمويلات أجنبية غير مشروعة يوم 20 يونية 2021م، كما صدر أول قرار بإلغاء منع سفر أحدهم.
وآخر من حقق معهم قاضي التحقيقات في قضية التمويل الأجنبي 29 يوليو هو حسام بهجت مدير المبادرة المصرية للحقوق الشخصية الذي التقاه وزير الخارجية الأمريكي 20 أبريل 2021م لبحث أزمة حقوق الإنسان، وقبل أن يتصل الرئيس الأمريكي بالسيسي لحاجته له في أزمة غزة، والذي أصدرت الخارجية الأمريكية بياناً تندد بالتحقيق معه في قضية أخري.
وكان المحامي نجاد البرعي، قال إن قاضي التحقيق في القضية، المستشار علي مختار، أخبره أن التحقيقات مع كل المتهمين في القضية ستنتهي خلال اﻷسبوعين المقبلين.
مفارقات القضية
وتعود وقائع قضية «منظمات المجتمع المدني»، إلى ديسمبر 2011م، حينما اقتحمت قوات الأمن مقرات عدد من منظمات المجتمع المدني الأجنبية وشكّلت لجنة للتحقيق في «قضية منظمات المجتمع المدني».
حينئذ انقسمت التحقيقات إلى شقين، أولهما تم تخصيصه للمنظمات الأجنبية العاملة في مصر، وهو الذي صدر حكم بصدده، أما الشق الثاني فيخص المنظمات المحلية، ولا يزال قيد التحقيق حتى الآن.
وفي 4 يونيو 2013م، أصدرت محكمة الجنايات أحكامًا بالسجن في هذه القضية تتراوح بين عامين وخمس سنوات لـ 32 متهمًا في القضية، وسنة مع إيقاف التنفيذ لـ 11 آخرين.
وقررت مصر حينئذ حَل فروع المنظمات الأجنبية المتهمة في القضية وهي: المعهد الجمهوري الأمريكي، والمعهد الديمقراطي الأمريكي، ومنظمة فريدوم هاوس، ومنظمة المركز الدولي الأمريكي للصحفيين، ومنظمة كونراد الألمانية، وإغلاق جميع فروعها.
وفي مارس 2012م جري تسديد كفالة الـ 19 أمريكي بواقع 2 مليون جنية لكل متهم بإجمالي 38 مليون جنية، والسماح بسفرهم على طائرة خاصة رغم أنهم متهمين.
ليظل المتهمون هم المصريون فقط مثل مسؤولي مركز النديم لضحايا التعذيب، والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان وغيرهم.
لاحقاً تنحت المحكمة وجري تشكيل أخرى وتأجيلها إلى أبريل 2012م، ثم أعيد فتحها يونية 2013م، بالحكم على الـ 43 موظفاً أجنبياً ومصرياً (27 غيابياً بينهم 18 أمريكياً) بالسجن ما بين عام و5 أعوام، مع إيقاف التنفيذ أو غيابياً، وإغلاق مقار المنظمات الأجنبية الخمسة.
ونقضت محكمة النقض هذا الحكم عام 2013م وفي مارس 2016م أعيد فتح التحقيق في القضية بعد غلقها 3 سنوات، وقصره على أشخاص ومنظمات مصرية، وصدر قرار قضائي بمصادرة أموال أربعة من الحقوقيين.
ثم توالت قرارات المصادرة والمنع من السفر لقرابة 30 حقوقي ممنوعون أيضاً من التصرف في أمواله.
ويوم 13 ديسمبر 2018م، أصدر البرلمان الأوروبي قراراً ينتقد مصر بعنف بسبب المحاكمات الجماعية للمعتقلين وأحكام الإعدام وأدان استهداف النشطاء ومنظمات المجتمع المدني.
لم يمض أسبوع واحد علي قرر البرلمان الأوروبي الذي طالب السلطات المصرية “بإسقاط جميع التحقيقات الجنائية التي لا أساس لها في عمل المنظمات غير الحكومية”، حتى برأت محكمة مصرية كل المتهمين في الشق الأجنبي من قضية التمويل الأجنبي المرفوعة منذ عام 2011م.
حيث قضت محكمة جنايات القاهرة في 20 ديسمبر 2018م بتبرئة المتهمين الـ 43 (حتى من لم يقبل نقضه) ما يؤكد أن الحكم بإدانتهم في البداية كان “سياسياً”.
وجاء الحكم بالبراءة رغم أن تحقيقات النيابة كانت قد اتهمت 43 متهماً منهم 14 مصرياً و29 أمريكياً وأوروبياً وعربياً، بأنهم تلقوا معونات أجنبية بلغت قيمتها 60 مليون دولار، من خلال 68 منظمة حقوقية وجمعية أهلية تعمل في مصر بدون ترخيص.
لكن ظل الشق المصري من المنظمات المتهمة بالتمويل الأجنبي معلقا 10 سنوات حتى بدأت التحقيقات الأخيرة لغلق هذا الملف.