شكّل العام الدراسي 2020/2021م عاماً استثنائياً في تاريخ التعليم بدولة الكويت خاصة، وفي النظم التعليمية العالمية عامة؛ باعتماده التعليم عن بُعد (Distance Learning)، أو ما يسمى بالتعليم “أون لاين”؛ شكل سبيلاً ونهجاً لمختلف مراحل التعليم، بدءاً من مرحلتي الروضة والابتدائية، ثم المرحلتين المتوسطة والثانوية، وانتهاء بالجامعة، في ظل جائحة “كورونا” وتداعياتها على مختلف جوانب الحياة.
لا شك أن التجربة في حد ذاتها تُعَدّ مكسباً مهماً للمنظومة التعليمية الكويتية، بغض النظر عن المآخذ التي تم رصدها، التي هي متوقعة في أي جهد بشري، فما بالنا إذا كان الأمر مختصاً بالتعليم في الكويت العام والخاص وأيضاً الجامعي؟
تشير أحدث الإحصاءات إلى أن أعداد الطلاب قد قاربت 700 ألف طالب، منهم 390673 طالباً في التعليم العام الحكومي، و268737 طالباً في التعليم الخاص؛ إضافة إلى 1745 طالباً وطالبة من ذوي الاحتياجات الخاصة في مدارس التربية الخاصة، وهناك 2542 طالباً في التعليم الديني، ناهيك عن عدد الطلاب الدارسين في قسم تعليم الكبار ومحو الأمية، وقد بلغ تعدادهم 19662 طالباً، أما أعضاء الهيئة التعليمية العاملون في المدارس الحكومية فقد بلغوا 68974 معلماً ومعلمة، وفي التعليم الخاص 17486 معلماً، وفي التربية الخاصة يوجد 1210 معلمين، وفي التعليم الديني 589 معلماً(1).
فلم يكن أمام صانع القرار التعليمي إلا اللجوء إلى التعليم الإلكتروني (عن بُعد)، فلا يعقل تعريض مثل هذا الكم الهائل من الطلاب والمعلمين والهيئات الإدارية لخطر الجائحة، التي تتابعت موجاتها صعوداً وهبوطاً، ولكنها لم تعرف انتهاء أو انحساراً، إلا بعد تيسير اللقاحات، وتتابع عمليات التطعيم بشكل حثيث وبتنظيم عالٍ.
خطة التربية جاءت مرنة خاضعة لتقويم مستمر بكل مراحلها لتدارك أي سلبيات
خطة مرنة
وقد جاءت خطة وزارة التربية مرنة سلسة، خاضعة لتقويم مستمر في كل مراحلها، من أجل تدارك أي تداعيات أو سلبيات، خاصة أنها المرة الأولى التي يصبح فيها التعليم في كافة مستوياته عن بُعد، فتم اعتماد آلية تقسيم أوقات دوام الطلبة في المراحل الدراسية بحيث تكون فترات حصصهم الافتراضية المتزامنة مختلفة تخفيفاً للضغط على شبكات الإنترنت، بما يجعل منصات التعليم الإلكتروني قادرة على تحمل ولوج ما يقارب الـ900 ألف حساب للطلبة والمعلمين في وقت واحد، بعد تطوير بوابة الكويت التعليمية، وتجهيز «السيرفرات» لتكون ملائمة لهذه المهمة، مستفيدة من مزايا التعليم عن بُعد، فأينما تواجد الطالب، يستطيع الولوج إلى فصله الافتراضي، والتواصل مع معلمه متى شاء، لتقديم الواجبات، أو طرح الاستفسارات، وأيضاً لسماع الحصص غير المتزامنة التي يسجلها المعلم، وتكون متاحة على صفحة الفصل الافتراضي؛ بما يعني المرونة في بيئة التعليم، وأيضاً في طرائق التواصل بين المعلم وطلابه.
لقد كان التحدي كبيراً أمام الوزارة، في ضوء عدم تهيؤ الميدان التعليمي على هذا النمط من التعليم، واحتياجه لمنظومة إلكترونية متكاملة، تبدأ من امتلاك الطالب لحاسوب أو جهاز لوحيّ أو هاتف متطور، مروراً بدعم شبكة الإنترنت، وبرنامج «Teams”، وتحديث البوابة الإلكترونية، وانتهاء بتدريب المعلمين والطلاب، الذي تم ضمن خطة متكاملة، قوامها إعداد مدربين من المعلمين المتميزين في مهارات التعليم الإلكتروني، الذين تولوا بدورهم تدريب جموع المعلمين في الميدان، جنباً إلى جنب مع معلمي الحاسوب في المدارس، الذين أضحوا بمثابة مستشارين فنيين لزملائهم في المدارس، كما تمت إعادة تصميم المناهج الدراسية وجدولتها، لتلائِمَ طبيعة هذا التعليم، مع إتاحة الكتب إلكترونياً، والتكليفات التقويمية والبحثية والاختبارات من خلال صيغة “Forms” المتوافرة في المنصات الإلكترونية.
ومع بداية العام الدراسي، تحول الميدان التعليمي الكويتي إلى العالم الافتراضي، وكانت المحصلة في نهاية العام إيجابية بشكل عام؛ حيث تطورت مهارات المعلمين في تقنيات الحاسوب، على اختلاف أعمارهم وأجيالهم وخبراتهم، فعُقِدت الاجتماعات الفنية، والورش والحلقات النقاشية للتنمية المهنية للمعلمين، في أوقات مختلفة عن الدوام التعليمي، التي كانت تعتمد من قبل على الاجتماعات التقليدية المباشرة، في أزمنة وأمكنة بعينها، كما تابع الموجهون الفنيون ومديرو المدارس وسائر مسؤولي الوزارة الفصول الافتراضية، ووقفوا بأنفسهم على التجربة بكل أبعادها ونواتجها.
التجربة ربما تلائم المراحل التعليمية الأعلى كالثانوي والجامعة لكنها لا تناسب رياض الأطفال والابتدائي
سلبيات عدة
ولكن التقييم النهائي للتعليم عن بُعد يرصد سلبيات عديدة، ذُكِرَت في بحوث علمية وتقارير المتابعة الميدانية، وأيضاً من قبل الخبراء والمختصين، ولعل أبرزها أن تلقي الطلبة للتعليم في المنازل تسبب لهم في مشكلات نفسية كبيرة، وفق ما أكدته دراسات أجريت على شرائح واسعة من الطلاب، بسبب حرمانهم من الذهاب إلى مدارسهم لأكثر من عام ونصف عام حتى الآن، خصوصاً الأطفال في السنوات العمرية المبكرة بمرحلتي الرياض والابتدائية، حيث يمكن تقسيم الفئات العمرية الصغيرة إلى فئتين: مرحلة رياض الأطفال التي تشمل الأطفال تحت 7 سنوات، وهي مرحلة اكتساب المعرفة والمهارات، والثانية المرحلة الابتدائية التي تضم مَنْ تجاوزت أعمارهم الـ7 سنوات، وهي مرحلة تطبيق لما تم تعليمه؛ فالطلاب في هاتين الفئتين يحتاجون إلى بيئة مناسبة تضم التعليم والترفيه والتنويع في الأنشطة، وعندما غابت هذه الأنشطة عنهم، باتوا أكثر عدوانية، مع إفراط في الحركة، واكتساب سلوكيات خاطئة، من جراء الانكباب على الألعاب الإلكترونية(2).
إن الأطفال في المراحل الدراسية الأولى (رياض الأطفال والابتدائي) يحتاجون حتماً إلى التعليم التقليدي، المعتمد على التفاعل الحي لهم من قبل معلميهم، وتدريبهم على القيم المدرسية والمهارات الكتابية، والتلقي الشفاهي المباشر، وتأثير شخصية المعلمة عليهم في مرحلة عمرية تتخذ من المعلم قدوة سامية.
فتجربة التعليم عن بُعد ربما تلائم المراحل التعليمية الأعلى نسبياً، مثل الثانوي والجامعة، لكنها لا تناسب -عامة- تلاميذ رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية، ففي هاتين المرحلتين، وخصوصاً رياض الأطفال؛ لا يحتاج الطفل إلى تعلم الحروف أو الكلمات بل إلى النشاط والتعرف على الزملاء والألعاب، بجانب عدم قدرته على استخدام الأجهزة الإلكترونية، بالإضافة إلى عدم مراعاة التجربة قدرة العائلات الكويتية والمقيمة على شراء الأجهزة اللوحية والحواسيب المحمولة، خصوصاً لدى العائلات التي لديها أكثر من 3 أو 4 أطفال.
يضاف إلى ذلك معاناة أولياء الأمور لاضطرارهم إلى تعليم أبنائهم كيفية تشغيل برنامج الدراسة والحرص على التواجد مع الطفل؛ ما أجبر كثيراً من الأمهات والآباء على التفرغ لأبنائهم، بشكل يومي ودائم، وأجبر بعضهم على أخذ إجازات من أعمالهم، وصاحب ذلك صعوبة متابعة الأبناء في المرحلة التعليمية الواحدة في وقت واحد، وصعوبة السيطرة عليهم، بالإضافة إلى عدم الجدية من قبل الصغار(3)، الذين أكثروا اللهو واللعب أثناء الدرس.
أما المرحلتان المتوسطة والثانوية، فإن هناك مآخذ عديدة على تجربة التعليم عن بُعد فيها، أبرزها تقليص ساعات الحصص الدراسية المخصصة للمواد الدراسية الأساسية، بما يعني عدم استيعاب الطلاب للمادة العلمية وضعف تدريبهم على مهاراتها، وشيوع ظواهر سلبية مثل الغش في الاختبارات، والغش الإلكتروني في إعداد البحوث وموضوعات التعبير، ناهيك عن الكسل الجسدي، الذي اعتاده الطلاب، فبعضهم يقضي الليل ساهراً، ويكتفي بتسجيل حضوره في الفصل، وهو شبه نائم، غير مستوعب أو متفاعل.
قابل ذلك إفراط بعض المعلمين في منح الدرجات الشفاهية، دون تقييم جاد للطالب، مع تساهل نسبي من قبل فئة من المعلمين في تصحيح الاختبارات الإلكترونية؛ فكانت المحصلة درجات زائفة مشكوكاً فيها، أنتجت في النهاية ضعفاً علمياً تراكمياً، يتطلب جهوداً مضنية لعلاجه.
وختاماً، يمكن القول: إن تجربة التعليم عن بُعد أكسبت كلاً من المعلم والمتعلم مهارات تقنية كثيرة، يمكن البناء عليها مستقبلاً، خاصة إذا اعتمدت الوزارة في العام القادم (2021/ 2022م) على التعليم المدمج، الذي يجمع ما بين التعليم عن بُعد، والحضور الجزئي للطلاب في المدارس، بما يتيح معالجة السلبيات والمآخذ، التي هي ديدن أي نشاط إنساني؛ فما بالنا إذا كان النشاط خاصاً بالتعليم، الذي هو عملية تفاعلية إنسانية، لا تقتصر على تقديم المعلومات، بل يصاحبها تأثيرات مهمة من خلال غرس القيم والأخلاق، وتعليم السلوكيات، والتوجيه المباشر؟
__________________________
(1) جريدة تعليم الإلكترونية (كويتية تعليمية مستقلة)، https://taleem.com.kw/2019/03/18
(2) تعليم «الأونلاين» سبَّب مشكلات نفسية للطلبة، تقرير صحفي، الجريدة الكويتية، 12/7/2021. https://www.aljarida.com/articles/1626024901664315100/
(3) أزمة التعليم عن بُعد في الكويت، تحقيق صحفي، العربي الجديد، 12/10/2020 https://www.alaraby.co.uk/society