الشباب هم عُمُدُ مجتمعاتهم العتيدة، وهم أساس أركانها الوطيدة، وعلى سواعدهم تنهض أممهم وتتطور، وهم وسط العمر، ووسط كلِّ شيء خِيَارُه، وكان أصحاب الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم شباباً، وهو القائل: “نصرني الشبابُ وخذلني الشيوخُ”.
حيث تجد الشاب صاحبَ حماسٍ شديدٍ، وقدرة فائقة، وتحمل كبير، وعزيمة وثابة لا تلين، وإذا كُلِف بعمل وصَدَقَ في أدائه خرج عملا مفيدا، وصالحا نافعا، ولا بد من ترشيد قدرات الشباب، واستيعاب طاقاتهم في عمل بَنَّاء، خلاق، جليل. وهكذا فعل الرسول الكريم في أحداث الهجرة حين أسدى إلى الشباب أعمالا كبيرة تتناسب مع طبيعة الدور الشبابي في بناء الأمم، وفي نهضة المجتمعات.
وإن المستقرئ لأحداث الهجرة يرى ذلك واضحاً، ماثلاً للعيان في كل عمل من أعمال الهجرة، حيث استُثْمِرَتْ طاقاتُ الشباب، ووُضِعُوا في المكان المناسب اللائق بكلٍّ منهم.
إذ تُذكر أسماءٌ بعينها كانت في مرحلة الفتوة، وأوان الشباب، منهم: “عليُّ بن أبي طالب” رضي الله عنه-، و”عبد الرحمن بن أبي بكر”، و”عامر بن فهيرة”، و”عبد الله بن أريقط”، و”السيدة عائشة”، و”السيدة أسماء” ذات النطاقين.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في سنِّ الأربعين سن الحكمة، والاتزان، وكان أبو بكر الصديق يصْغره بعشْر سنوات، فكان الجميع في مراحل الشباب الواعدة.
أما مُهمة “عامر بن فهيرة” عامل عند أبي بكر، فهي مهمة خطيرة؛ إذ نِيطَ به أن يرعى غنما لأبي بكر في طريق سير الرسول، وابن أبي بكر “عبد الرحمن بن أبي بكر” حتى يعفوَ، أو يزيل أثر أقدامهم؛ لأن المشركين يعرفون قصَّ الأثر، ويتتبعون صاحبه حتى يصلوا إليه؛ فهم خبراء في هذا المجال، ورغم كل ذلك التخطيط النبوي فإن تتبُّعَ آثار الأقدام قد أوصلهم إلى الغار، وأوقفهم أمامه، لكن الرسول اجتهد، وأعمل عقله، وفكره في هذه الحرب الشرسة التي خُطِّط لها لتنال من شخصه الشريف، وشخْص صاحبه الأمين أبي بكر -رضي الله عنه-، لكن عامر بن فهيرة قام بمهمته خير قيام، وكان للأغنام -وهي من شريحة الحيوان- دور في إنجاح الهجرة، كما كان لناقتَيْ الرسول وأبي بكر دور كذلك في سير مراحل الهجرة سيرها الهادئ الناجح القويم.
أما دور” عبدالرحمن بن أبي بكر” الشاب القويم، فيتمثل في دور المخابرات العامة، والحربية، وجهاز للأمن المعلوماتي؛ حيث كان طوال النهار يجمع الأخبار من أفواه مكة وأبنائها، ثم يذهب بالليل؛ ليضعها أمام القائد الأمين لهذه الأمة، فيعلم ما يفكرون فيه، وما يدبرونه بليل، وقبل طلوع النهار يأتي عبد الرحمن إلى منزله، كأنه فيه، يبيت كما يبيت المكِّيُّون، فلا يعلم بما قام به أحد منهم، وهذه مهمة جليلة قام ابن فهيرة بها خير قيام، وأسهمت في بقاء الرسول ثلاثة أيام، وانتهى طلب قريش، ونجَّاه الله من غدرهم، ووصل بحمد الله إلى المدينة المنورة سالماً.
ويأتي دور الشاب الخبير بمسالك الصحراء ودروبها وهضابها ونجادها وتهامها: “عبدالله عبد أُريقط”، وكان مشركاً لكنه كان خبيراً بالصحراء (كان خِرِّيتًا)، فاختاره الرسول الكريم دليلاً لهما في تلك الصحراء الشاسعة المترامية الأطراف، وهذا يعني أنه يجوز الاستعانة بالمشركين شريطة ألا يتحكموا في مصير الأمة ومستقبلها، إنما يُستجْلَبُون ثم يأخذون مقابل خدمتهم ثم يرحلون، ولا يتدخلون في شؤون الدولة الإسلامية، وقد قام ابن أريقط بمهمته قياماً أميناً دلّ على دقة بصر رسول الله وبُعْد نظره وشمول فكره وإلمامه بكل طاقات مجتمعه وعقلياتهم: مؤمنين، وغير مؤمنين.
أما المرأة المسلمة الشابة القوية فيتمثل في اثنتين؛ الأولى السيدة الفاضلة أم المؤمنين: “عائشة رضي الله عنها حيث مَوَّهَتْ عن مكان الرسول، ومكان أبيها عندما جاء جدُّها يسأل عن أبي بكر(ابنه)، ووِجْهته.
قالت: لا أدري أين توجه، فسألها عن الأموال فقدمت له صرة فيها بعض الأحجار فوضع يده -وكان كفيفاً- فاطمأن، وسكت، وإلا لكان وبالاً، ونكالاً على أحداث الهجرة، ورفع عقيرته كاشفاً أمْرَ ابنه، وأمْر الرسول؛ مما يستدعي بحث المشركين عنهم بصورة سريعة، فيقع الرسول وصحبه في أسْرِهم، وتتأخر بذلك مسيرة الإسلام، فكان عملها هذا عملاً مجيداً دلَّ على ذكاء كبير، وحسن تصرف، وكان عملاً موفقاً، له أثر كبير في نجاح مهمة الرسول وصحبه.
أما الثانية فهي السيدة “أسماء” رضي الله عنها، فدورها كان قد تمثل في كتيبة الإمداد والتزويد التي لا يقل دورها عن دور المدفع، والصاروخ، أو دور المخابرات، أو دور الرادار، والرصد؛ حيث كانت مهمتها حمل الزاد، والماء والسير ليلاً في شِعاب مكة، وتلالها، وهضابها، وكانت حاملاً على موعد مع الولادة، لكنّ اختيارها كان موفَّقا غاية التوفيق؛ حيث إنها حُرَّةً، ولا يتعرض أهل مكة للحرائر في الطرقات، كما أنها ابنة شريف مكة (أبي بكر الصديق) المعروف بمكانته وأمانته، والجميع يحترمه ويحترم أولاده، وبناته، وكانت -لكونها حاملاً- تخرج ليلاً كأنها تتمشى، والحامل التي قَرُبَ وقتُ ولادتها لا بد أن تخرج للمشي كثيراً؛ حتى تسهل ولادتها، واجتهدت في مهمتها لتجد شيئاً تربط به الزاد، فلم تجد إلا نِطَاقها الذي تنتطق به، فَشَقَّتْه نصفين، وربطت به فمَ الصُّرَّة التي جمعت فيها الطعام، فَسُمِّيَتْ بـ”ذات النطاقين”، وبشرها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى قد أبدلها نطاقين في الجنة بدل نطاقيها في الدنيا لاجتهادها، وبذل وُسْعها وطاقتها في نجاح أحداث الهجرة.
إن الناظر لكل هؤلاء يجد أن الشباب على اختلاف جنسهم: رجالاً ونساء، ذكوراً وإناثاً، شباباً وشيباً- قد اجتهدوا اجتهاداً صادقاً، وبذلوا كل ما في وسعهم لنهضة أمتهم، ونجاح مهمة رسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم حتى وصل الرسول، وصاحبه إلى المدينة المنورة، فقام الجميع: شباباً وشيباً، رجالاً ونساء بحمايته، وقامت دولة الإسلام في المدينة بعد أن أقامها الرسول الكريم في القلوب، والأفئدة طيلة ثلاثة عشر عاماً في مكة المكرمة في فترة التكوين العقدي.
نسأل الله تعالى أن يبارك في الشباب، وأن يرشد جهودهم، وأن يزيدهم من فضله، وعلمه، وحكمته، وجُودِه، وعطائه، وأن يرزقهم الرشاد، والسداد، والقبول والتوفيق، والنجاح والفلاح، وأن يرزق القائمين على أمور البلاد الإسلامية من توجيههم الوجهة الصالحة، وتسديد خُطاهم، ومُباركة مسعاهم حتى يصلوا بأمة الإسلام إلى بر الأمان، وتكون الريادة والقيادة، والسيادة للمسلمين في هذا العالم الحائر على دروب الفرقة، والتخبط، والتشرذم إلى طريق الإسلام الجميل الذي يبغي الحياة الراقية، ويسعى لنشر الخير والحق في ربوع الأرض، وصلى الله وسلم وبارك على صاحب الذكرى العطرة، وعلى آله وصحبه أجمعين، وكل عام وأنتم جميعاً بخير، والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات.
__________________________________
(*) كلية دار العلوم- جامعة القاهرة، والمقال منشور على صفحته بـ”فيسبوك”.