لا يشكُّ أهل السُّنة في أحقِّيَّة خلافة عثمان رضي الله عنه وصحَّتها، وأنَّه لا مطعن فيها لأحدٍ إلا ممَّن أصيب قلبه بزيغ، فنقم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلَّم بسبب ما حلَّ في قلبه من الغيظ منهم، وهذا لم يحصل إلا من الأعداء الّذين جعلوا رأس مالهم في هذه الحياة الدُّنيا هو سبُّ الصَّحابة رضي الله عنهم، وبغضهم، ولا قيمة لما يوجِّهونه من المطاعن على خلافة الثَّلاثة رضي الله عنهم لظهور بطلانه، وأنَّها افتراءاتٌ لا تصحُّ، وقد جاء في جملةٍ من النُّصوص القطعيَّة الصَّحيحة، والآثار الشَّهيرة التَّنبيه، والإيماء إلى أحقيَّة خلافة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، ومن ذلك:
1- قوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور: 55)، وجه الاستدلال بهذه الآية على أحقِّيَّة خلافة عثمان رضي الله عنه أنَّه من الّذين استخلفهم الله في الأرض، ومكَّن لهم فيها، وسار في النَّاس أيام خلافته سيرةً حسنةً؛ حيث حكم فيهم بالعدل، وأقام الصَّلاة، وآتى الزَّكاة، وأمر بالمعروف، ونهى عن المنكر، فهذه الآية تضمَّنت الإشارة إلى أحقِّيَّة خلافته رضي الله عنه.
2- قوله تعالى: (قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (الفتح: 16)، وجه الاستدلال بهذه الآية على أحقِّيَّة خلافة عثمان رضي الله عنه هو أنَّ الدَّاعي لهؤلاء الأعراب داع يدعوهم بعد نبيِّه صلى الله عليه وسلَّم وهو أبو بكر، وعمر، وعثمان، رضي الله عنهم، فأبو بكر دعاهم إلى قتال الرُّوم، والفرس، والتُّرك فوجبت طاعة هؤلاء الثَّلاثة رضي الله عنهم بنصِّ القران، وإذا وجبت طاعتهم، صحَّت خلافتهم، رضي الله عنهم، وأرضاهم.
3- عن أبي موسى رضي الله عنه قال: إنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلَّم دخل حائطاً، وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجلٌ يستأذن، فقال: «ائذن له، وبشِّره بالجنَّة» فإذا هو أبو بكر، ثمَّ جاء آخر يستأذن، فقال: «ائذن له، وبشِّره بالجنَّة» فإذا هو عمر، ثمَّ جاء آخر يستأذن، فقال: «ائذن له وبشِّره بالجنَّة على بلوى تصيبه» فإذا هو عثمان ابن عفَّان. هذا الحديث فيه إشارةٌ إلى ترتيب الثَّلاثة في الخلافة، وإخبارٌ عن بلوى تصيب عثمان، وهذه البلوى حصلت له رضي الله عنه، وهي حصاره يوم الدَّار، حتَّى قتل آنذاك مظلوماً، فالحديث علمٌ من أعلام النُّبوَّة، وفيه الإشارة إلى كونه شهيداً رضي الله عنه، وأرضاه.
4- روى أبو داود رحمه الله بإسناده إلى جابر بن عبدالله: أنَّه كان يحدِّث: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: رأى اللَّيلة رجلٌ صالحٌ: أنَّ أبا بكر نيط برسول الله، ونيط عمر بأبي بكرٍ، ونيط عثمان بعمر. قال جابر: فلمَّا قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قلنا: أمَّا الرَّجل الصَّالح؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلَّم، وأمَّا تنوُّط بعضهم ببعض فهم ولاة هذا الأمر؛ الّذي بعث الله به نبيَّه صلى الله عليه وسلَّم.
5 ـ وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول: «إنَّها ستكون فتنةٌ، واختلافٌ، أو اختلافٌ، وفتنةٌ» قال: قلنا: يا رسول الله! فما تأمرنا؟ قال: «عليكم بالأمين، وأصحابه» وأشار إلى عثمان.
وهذا الحديث فيه معجزةٌ ظاهرةٌ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم الدَّالَّة على صدق نبوَّته ؛ حيث أخبر بالفتنة الّتي حصلت أيام خلافة عثمان وكانت كما أخبر، كما تضمَّن الحديث التَّنبيه على أحقيَّة خلافة عثمان؛ إذ إنَّه صلى الله عليه وسلَّم أرشد النَّاس إلى أن يلزموه، وأخبر بأنَّه حين وقوع الفتنة والاختلاف فالحقُّ مع أمير المؤمنين، وأمرهم بالالتفاف حوله وملازمته، لكونه على الحقِّ، والخارجون عليه على الباطل، أهل زيغ، وهوىً، وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلَّم بأنَّه سيكون مستمرّاً على الهدى لا ينفكُّ عنه.
6- روى أبو عيسى التِّرمذيُّ بإسناده إلى عائشة رضي الله عنها: أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلَّم قال: «يا عثمان! إنَّه لعلَّ الله يقمصك قميصاً، فإن أرادوك على خلعه؛ فلا تخلعه لهم»، ففي هذا الحديث الإشارة إلى الخلافة، واستعارة القميص لها وذكر الخلع ترشيحٌ، أي: سيجعلك الله خليفةً، فإن قصد النَّاس عزلك، فلا تعزل نفسك عنها لأجلهم لكونك على الحقِّ، وكونهم على الباطل.
7- وروى التِّرمذيُّ بإسناده إلى أبي سهلة، قال: قال لي عثمان يوم الدَّار: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قد عهد إليَّ عهداً، فأنا صابرٌ عليه. فقوله: قد عهد إليَّ عهداً، أي: أوصاني ألا أخلع بقوله: وإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم، فأنا صابرٌ عليه، أي: على ذلك العهد.
8- وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سهلة مولى عثمان عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلَّم قال: «ادعوا لي -أو ليت عندي- رجلاً من أصحابي»، قالت: قلت: أبو بكر، قال: «لا!» قلت: عمر. قال: «لا!» قلت: ابن عمِّك عليٌّ. قال: «لا!» قلت: فعثمان: قال: «نعم!» قالت: فجاء عثمان، فقال: «قومي!» قال: فجعل النَّبيُّ صلى الله عليه وسلَّم يسرُّ إلى عثمان، ولون عثمان يتغيَّر. قال: فلما كان يوم الدَّار؛ قلنا: ألا تقاتل؟ قال: لا: إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلَّم عهد إليَّ أمراً فأنا صابرٌ نفسي عليه.
فهذا الحديث والّذي قبله فيهما دلالةٌ على صحَّة خلافته، فمن أنكر خلافته ولم يره من أهل الجنَّة، والشُّهداء، وأساء الأدب فيه باللِّسان، أو الجنان، فهو خارجٌ عن دائرة الإيمان، وحيِّز الإسلام.
9- وممَّا دل على صحَّة خلافته، وإمامته ما رواه البخاريُّ بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنَّا في زمن النَّبيّ صلى الله عليه وسلَّم لا نعدل بأبي بكرٍ أحداً، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، ثمَّ نترك أصحاب النَّبيّ صلى الله عليه وسلَّم لا نفاضل بينهم، وفي هذا إشارة إلى أنَّ الله ـ تعالى ـ ألهمهم، وألقى في رُوعهم ما كان صانعه بعد نبيِّه صلى الله عليه وسلَّم من أمر ترتيب الخلافة.
قال ابن تيميَّة: فهذا إخبارٌ عمَّا كان عليه الصَّحابة على عهد النَّبيّ صلى الله عليه وسلَّم من تفضيل أبي بكرٍ، ثمَّ عمر، ثمَّ عثمان، وقد روي: أنَّ ذلك كان يبلغ النَّبيّ صلى الله عليه وسلَّم، فلا ينكره، وحينئذٍ فيكون هذا التَّفضيل ثابتاً بالنَّص، وإلا فيكون ثابتاً بما ظهر بين المهاجرين، والأنصار على عهد النَّبيِّ صلى الله عليه وسلَّم من غير نكيرٍ، وبما ظهر لمَّا توفي عمر، فإنَّهم كلَّهم بايعوا عثمان بن عفَّان من غير رغبةٍ، ولا رهبةٍ، ولم ينكر هذه الولاية منكرٌ منهم.
وكل ما تقدَّم ذكره من النُّصوص في هذه الفقرة أدلَّةٌ قويَّةٌ كلُّها فيها الإشارة والتَّنبيه إلى أحقِّيَّة خلافة عثمان رضي الله عنه، وأنَّه لا مرية في ذلك ولا نزاع عند المتمسِّكين بالكتاب، والسُّنَّة، والّذين هم أسعد النَّاس بالعمل بهما، وهم أهل السُّنَّة، والجماعة، فيجب على كلِّ مسلمٍ أن يعتقد أحقِّيَّة عثمان رضي الله عنه، وأن يسلِّم تسليماً كاملاً للنُّصوص الدَّالَّة على ذلك.
____________________________________________
1- ابن حزم الأندلسي، الفصل في الملل والأهواء والنِّحل، مكتبة الخانجي، مصر. (2/656 ).
2- علي محمد الصلابي، تيسير الكريم المنان في سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان t، ص 98-103.
3- ناصر بن علي عايض حسن الشَّيخ، عقيدة أهل السُّنَّة والجماعة في الصَّحابة الكرام، مكتبة الرُّشد، الرياض. (2/656).