بالأمس الأحد 15 أغسطس 2021م، شهدت أفغانستان تدهوراً دراماتيكياً بسقوط كابل بيد مجاهدي “طالبان”، بدون قتال، وهروب الرئيس الأفغاني أشرف غني إلى طاجيكستان هو وبعض مساعديه.
ويعتبر هذا التحول نصراً كبيراً لـ”طالبان” في حربها ضد القوات الحكومية وحليفها الولايات المتحدة التي دخلت في تفاوض منذ عام 2019م للانسحاب التدريجي، والمقرر نهايته 31 أغسطس الجاري.
ووفق التصريحات الرسمية والظاهرية، فإن الأمريكيين فوجئوا بهذه التطورات؛ بل حتى “طالبان” لم تدخل كابل إلا بعد انحلال الحكومة وفرار رئيسها، وتخلي القوات الأمنية الحكومية عن مهامها في العاصمة؛ فأسرعت “طالبان” لدخول القصر الرئاسي لمحاولة ملء الفراغ الأمني.
ولا شك أن هذا نصر كبير لـ”طالبان” فرح له المسلمون في أرجاء العالم بانتصارها على قوة دولية وحلفائها المحليين، لكن النصر الأكبر الذي يرتجيه المسلمون أن تقوم دولة تقيم العدل والحريات، وتؤمن للناس حياتهم ومعيشتهم، وتطور مجتمعهم، وتبني دولتهم، وتوحد كلمتهم، وتربط على قلوبهم، وهو تحدٍّ كبير أمام “طالبان” التي تسنمت الحكم في أفغانستان بعد جهاد طويل لمدة عشرين عاماً، لكن هذه الحرب خلفت بين “طالبان” ومخالفيها جداراً من الشك والخوف والاحتراب، وتاريخاً من الدماء والجراح والآلام اقترفتها جميع الأطراف.
لكن العلامة الموسومة بها هي أنها نتائج الحالة الإسلامية وقواه المختلفة والمتحالفة على مسار إدارة الحرب تارة، وإدارة الدولة تارة أخرى.
الحالة الإسلامية ما بعد عام 1979
منذ أن سيطر الشيوعيون على مقاليد الحكم في أفغانستان عام 1979م، وانقلبوا على حكم الرئيس السابق داود؛ كانت الحالة الإسلامية الدينية يتجاذبها اتجاهان؛ أولهما الاتجاه التقليدي “المدارس الشرعية” و”الصوفية التقليدية”.
ومع تطور مدرسة الإمام المودودي في شبه القارة الهندية، فإن تأثير هذه المدرسة كان يتمدد إلى الحالة الدينية في أفغانستان، وتأثر بها العديد من الشباب الأفغاني، لكن شاباً أفغانياً متميزاً انتقل إلى القاهرة للدراسة في الأزهر، وتخرج بشهادة الدكتوراه، وهو د. غلام محمد نيازي، مؤسس النهضة الإسلامية في أفغانستان، الذي تأثر بمدرسة الإخوان، والتقى بعض قادتهم في مصر، وقد تولى عمادة كلية الشريعة في كابل أيام حكم الرئيس داود، وقام بتأسيس أول كتلة إسلامية حركية عملت على بث أفكار النهضة الإسلامية، وكان المؤسسون هم: م. حبيب الرحمن، غلام محمد نيازي، الشيخ حبيب الرحمن، د. محمد عمر، غلام رباني عطيش، أ. عنايت الله.
وكان حكم داود منفتحاً على الأفكار الليبرالية، وعرف بالانفتاح الأخلاقي اجتماعياً الذي اختلف مع هذه الكتلة الإصلاحية، فتم اتهامهم بمحاولة تغيير الحكم، فسجنهم، وقتلهم يرحمهم الله، ولكن كان لنيازي وكتلته تأثير في شباب أفغانستان بإنشاء تيار جديد وأفكار جديده تختلف عن الفكر الديني التقليدي، وكان ممن تأثر به شخصيتان، هما: أستاذ كلية الشريعة برهان الدين رباني الذي أسس فيما بعد الجمعية الإسلامية في سياق الجهاد ضد الاتحاد السوفييتي وحكم الشيوعين، وشخصية أخرى طالب في كلية الهندسة وهو قلب الدين حكمتيار الذي أسس الحزب الإسلامي.
كلتا الشخصيتين تأثرت بأفكار المودودي والإخوان، لكنهما كانا مستقلين في تنظيميهما، ولهما شبكة كبيرة من القدرات والإمكانات والطاقات الجهادية، وكانا مميزين بالتنظيم والاستفادة من نموذج الجماعة الباكستانية والإخوان في عمليات تأسيس وتكوين الأفراد.
وفي هذا السياق، تميزت شخصية دينية أخرى، وهو عبد رب الرسول سياف الذي كان أحد تلامذة رباني، وأسس الاتحاد الإسلامي بعد خروجه من السجن عام 1982م، وكان حينها شاباً يصغرهما.
وتأسس أيضاً في الثمانينيات تنظيم جهادي لعالم تقليدي هو محمد يونس خالص، وهو قريب أيضاً من أفكار الإخوان، وانشق عنه الشيخ محمد نبي محمدي وهو من الشيوخ التقليديين أسس حزب الحركة الإسلامية لمجاهدي أفغانستان وهو أقرب لحركة “طالبان”.
ومن جهة أخرى، أسس صبغة الله مجددي، زعيم روحي تقليدي وزعيم لطريقة صوفية، تنظيماً جهادياً، وكذلك أسس سيد أحمد جيلاني، وهو أيضا شيخ طريقة صوفية وكان مقرباً للرئيس السابق داود، جبهة جهادية.
وعليه؛ فإن هذه التنظيمات الجهادية السبعة هي التي واجهت الروس، وعملت على خوض حرب تحرير، وتسلمت السلطة في كابل، لكن لم تستطع هذه التنظيمات التفاهم فيما بينها، ودخلت في صراع مواقع وجبهات وتحالفات متضادة إلى أن دخلت “طالبان” عام 1996م كابل وسيطرت عليها.
حركة “طالبان”
هم طلاب العلوم بالمدارس الشرعية، وهم على خلاف فكري وديني بتبني التيار الديني التقليدي الحنفي، وخلاف سياسي بدعم من باكستان والولايات المتحدة من عام 1994م لدحر حكومة المجاهدين التي تشكل قاعدتها الفكرية أفكار المودودي والإخوان.
بعد تسلم “طالبان” السلطة عام 1996م، طبقت نموذجاً سياسياً دينياً محكوماً بمرجعية حنفية تقليدية متطرفة، وتطبيقات دينية متشددة في منظومة اجتماعية بعد حرب أهلية واقتصاد منهار، وتحالفت مع قوى “القاعدة”، وواجهت الأقلية الشيعية وقوى الشمال التي كانت بقيادة أحمد مسعود شاه، نائب رباني، وعبدالرشيد دوستم (ليبرالي مدعوم من روسيا) لكن تجربة “طالبان” الأولى في الحكم كانت سيئة للغاية، وكان تفسيرهم متشدداً، ومخالفاً للفقه الحنفي في بعض الأحيان، وكانت أقرب إلى ممارسات قبَلية منها إسلامية (مثال قضية البرقع الأفغاني (التشادوري) الذي كان هو الحجاب الوحيد المعتمد، بينما في الفقه الحنفي لا يوجد نقاب).
ومن الأمثلة الأخرى على تشددهم:
– تشددهم في إطلاق اللحية ومعاقبة الحليقين.
– ضرب النساء في الشارع بالسياط في حال عدم وجود محرم معهن.
– منع التلفاز.
– إجبار الناس على صلاة الجماعة.
– منع النساء من الدراسة لمدة 6 سنوات.
وأثناء حرب التحرير أخذ عليهم التفجيرات التي قتل فيها آلاف من عامة الناس وبسطائهم في الشوارع والدوائر الحكومية، وتكفير كل من يعمل في الحكومة، ونعتهم بأنهم مرتدون، وقد أعلنوا الآن العفو عنهم، وهذا غير معقول أن شخصاً يعمل في الحكومة مسلم يفتون بارتداده.
وهكذا دخلت أفغانستان طوراً جديداً أدى إلى التدخل الأمريكي في عام 2001م، وإنهاء حكم “طالبان” في أيام معدودة، وتراجعت “طالبان” إلى القوى الجبلية وبعض المدن.
وتأسست حكومة مدنية غير دينية من تيارات وأحزاب دينية وليبرالية وقبلية وطائفية، وبها انتهت فترة الجهاد الأفغاني ونموذجها في الحكم.
الحالة الدينية 2021
آلت الأمور للحراك الإسلامي إلى ما يلي:
طالبان: احتفظت بالسلاح ودخلت حرب تحرير ضد الأمريكيين، ونجحت في التفاهم مع الأمريكيين منذ عام 2019م وللتحولات التي نراها انتهت باستلام كابل، وكذلك التفاهمات مع قادة الجيش الأفغاني في أغلب المناطق والولايات الأفغانية بدفع رواتب أفراد الجيش وإبقائهم في وظائفهم؛ حيث لم تدفع الحكومة الأفغانية رواتبهم منذ 6 شهور، وتفاهمت مع بعض قادة المجاهدين السابقين في الولايات لتأمينهم وعدم المساس بمكانتهم الشعبية، وتعلمت “طالبان” من أخطائها، ومن التصريحات السياسية لهم بأنهم يرغبون بمشاركة الأطراف الأخرى في الحكم وعدم التشدد في بعض التطبيقات وتأمين جميع المخالفين.
حالة التنظيمات الجهادية السابقة
الجمعية الإسلامية: التي قادها برهان الدين رباني رحمه الله تعتبر من أقوى التنظيمات في أفغانستان، شاركت في كل الحكومات، ولها حضور قوي في الشمال، وكان نائب الرئيس منهم، وما زال تحت يدهم أيضاً وادي بانجشير الإستراتيجي، وهذه الولاية الوحيدة التي لم تسيطر عليها “طالبان” إلى كتابة هذا المقال، وتملك الجمعية أسلحة متطورة، ولكنها انقسمت قسمين؛ قسماً مع مسعود بن أحمد مسعود شاه، وهو الجزء الأكبر، ويسيطر على وادي بانجشير، والقسم الثاني عطا محمد نور، وهو رجل الشمال القوي، وقد غادر إلى باكستان اثنان من أبناء أحمد مسعود شاه، رحمه الله، للتفاوض والمشاركة في الحكومة الجديدة من عدمه.
الحزب الإسلامي: الذي يتزعمه قلب الدين حكمتيار ما زال رئيساً له، إلا أنه استمر في قتال الأمريكيين، لكنه قبل سنتين وقع اتفاقاً مع الحكومة الأفغانية مقابل إطلاق سراح أفراده، كما أنه لم يكن متشدداً مع “طالبان”، وهو الآن مع اللجنة الثلاثية (د. عبدالله عبدالله، وحامد كرازاي) التي تتفاوض مع “طالبان”.
الاتحاد الإسلامي بزعامة سياف: اكتفى بدور المرجعية الدينية في أفغانستان، ويزوره الرئيس والقادة والوفود الخارجية (أشبه بسيستاني العراق)، وكان متشدداً ضد “طالبان”، وفي مواجهتهم ومحاربتهم لخروجهم عن الدولة، ولم يشارك حزبه في الحكومات، ولكنه يشارك بمستشارين، ويرأس نائبه رئاسة مجلس الشيوخ (الغرفتين) في كابل، كما أن بعض السفراء الأفغان في الكويت وقطر من حزبه.
أما حامد كرازاي، فقد كان السكرتير الشخصي لصبغة الله المجددي، وكان مجددي قد ترأس أول رئيس دولة لحكومة المجاهدين، في حين كرازاي ترأس أول حكومة بعد الاحتلال الأمريكي عام 2001م.
جمعية الإصلاح الأفغانية: تمثل جمعية الإصلاح الأفغانية تيار الإخوان المسلمين الذي يؤمن بالعمل السلمي والتوافق السياسي والاجتماعي، ولم تخض الجمعية ولا أفرادها الصراع في الحرب الأهلية، ولم تشارك أيضاً في أي حكومة بعد الاحتلال الأمريكي لأفغانستان، وتمثل دورها في العمل التنموي والإصلاحي والاجتماعي والنقابي والمهني والخيري، ويترأسها د. نصير أحمد نووبدي، وهو رئيس الشورى، ويترأس مجلسها التنفيذي د. عبدالصبور فخري.
وهي تمتد في جميع الولايات الأفغانية، ولها علاقات مزدوجة وطيبة مع جميع الأطراف بمن فيها “طالبان”، وتعد الجمعية أكثر تجمع لديه كفاءات وطنية مدربة مهنياً واجتماعياً ووظيفياً؛ حيث تدير الجمعية مستشفيات وعيادات ساهمت بشكل فعال في احتواء وباء كورونا، وتحت يدهم آلاف الأطباء الأفغان وكوادر مهنية متنوعة، كما يديرون أكبر منظمات الشباب في البلاد.
والسؤال: هل ستستطيع “طالبان” إدارة الحالة الإسلامية في ضوء هذه التناقضات ونقص الكفاءات واتساع الرقعة الجغرافية واختلاف الأعراق والطوائف والإثنيات؟ وهل تدرك “طالبان” الحالة الإستراتيجية الدولية وصراع الأقطاب الدولية والإقليمية ومصالحها؟
إن النموذج الثالث السياسي للحالة الإسلامية هو اليوم بيد “طالبان” لا غير؛ فهي أمام تحدٍّ كبير، إما تستجمع قوة الحالة الإسلامية لبناء نموذج جديد، وإما تكون سبباً في حرب أهلية وإقليمية ودولية قادمة، إذا لم تحسن استشراف المشهد، وقبول الآخر، والتفاهم على مشروع وطني واحد يقيم العدل والمساواة والحريات والأمن الحياتي والمعيشي، ويجذر السيادة والإرادة، ويستلهم الوحدة، ويرجع إلى المرجعية الإسلامية الوسطية.
مراجعات
من الواضح أنه خلال العشرين السنة الماضية بدأ تحرك “طالبان” مبنياً على مراجعات لسلوكها في المجتمع الأفغاني والاستفادة من التجربة السابقة، وهذا ما بدا واضحاً أن كل الولايات لم تجر فيها صدامات واحتراب دموي، وإنما تفاهمات بأن تقود “طالبان” رئاسة الأمن وتترك الولايات لإدارتها الذاتية.
كما أن التصريحات التي أطلقها قادة “طالبان” الميدانيون ومن قطر كلها تصريحات مشجعة للاستقرار السياسي والأمني والتوجه نحو المصالحة وعدم التشدد في بعض الأمور الاجتماعية.
إعادة التفاهم والتوافق والتعايش وفق النموذج الوطني المعتمد على المرجعية الإسلامية هو مسار صحيح لإدارة الدولة والمجتمع في أفغانستان.