في كثير من الأحيان تكتسب بعض المعاني فهما أحادياً من كثرة تردادها في محيط هذا الفهم فقط لا غيره، وككل الأشياء في الحياة يحدث الأمر ثم يضاف إليه عامل الزمن فيكتسب خصائص وصفات راسخة ويصبح يقيناً يدرس في الكتب.. من ذلك فهم بعض العلماء من جانب وبعض البسطاء من جانب آخر لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم (أفلح إن صدق).. إذ جاء رجل ليسأل الرسول عن الإسلام فقال له رسول الله: خمس صلوات في اليوم والليلة، قال: هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع قال رسول الله: وصيام شهر رمضان قال: هل علي غيره؟ قال: لا إلا أن تطوع قال الراوى: وذكر له رسول الله الزكاة فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تطوع.. ثم انصرف الرجل وهو يقول: والله (لا أزيد) على هذا و(لا أنقص) منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق.
الناس الطيبون عادة ما يستخدمون تعليق الرسول الكريم الذي أنهي به حديثه مع السائل في سياق التشكيك في حديث أحدهم أو توقع مخالفته لعهد أو اتفاق، والعامة من الناس خاصة متوسطي الثقافة يحلوا لهم أحيانا أن يستخدموا جملا فصيحة في نقاشاتهم ظنا منهم انه سينبثق منها لهيبا عظيما يفحم من أمامهم..
لكن بعض العلماء تجدهم لا يقفون كثيرا عند هذا الحديث الهام وكل ما صح عن رسول الله هام فهو صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن هوى.. ليس العلماء فقط ولكن الناس الصالحين أيضا الذين قرروا أن يكون لهم دور بارز في الحياة العامة من الناحية الدينية.
الحاصل أن التفسيرات التي تناولوها كانت عن (سوء فهم) بعض الناس لهذا الحديث في أنهم إذا فعلوا مثل ما فعل السائل سيدخلون الجنة حتى لو ارتكبوا المعاصي والآثام، رغم أن ذلك لم يشر إليه مجرد إشارة في الحديث.. لكن البعض الأخر فهم من حديث الرسول أن فيه قدر كبير من الرحب والسعة.. ووجدوا فيه ظلا ظليلا لدينهم ودنياهم.. فالرسول أشار إلى وصف (الفلاح) الذي ذٌكر في القرآن 6 مرات (المفلحون) وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أن الوصول إلى ذلك وإدراكه ممكن وميسور إذا كان مصحوبا بالـ (الصدق) والذي هو أصلا يكاد يكون الجامع الأعظم لكل الأقوال والأفعال ما خفي منها وما ظهر.. ومن اعتاده أدركه فالخير عادة كما يقولون.
إنه (الرحمة المهداة) والقارئ المدقق في سيرته صلى الله عليه وسلم سيجد أن حبه وحنانه وإشفاقه على أمته يسع فضاء الدنيا كلها، والأحاديث الشريفة التي ينهى فيها عن كثرة السؤال والتفصيص والتمحيص في الأوامر والتكاليف والدفع بها إلى ما قد لا يطاق ولا يحتمل (مثل حديث الحج المشهور) أحاديث كثيرة، وكان يقول (ذروني ما تركتكم فإنما هلك الذين من قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه وإذا أمرتكم بالأمر فأتوا منه ما استطعتم)..
وكان صلى الله عليه وسلم يريد للمسلم أن يتبلغ إلى الحقيقة الكاملة والنعمة الحقيقية بأيسر سبل البلوغ والوصول دون مشقة التكاليف وعسر المسالك. فالمسألة ليست طقوس ومناسك في ذاتها مع تعظيمها والالتزام بها وأهميتها الكبيرة في التاريخ الاجتماعي للأمة.. لكنه وقبل كل شيء (القلب السليم) الذي يخفق في كل دقة وأخرى قائلا (وأن إلى ربك المنتهى) (وأن إلى ربك الرجعى).
في صدر الإسلام تكونت لدينا عن احتياج وتطور طبيعي مدرستين كبيرتين: مدرسة الرأي بالعراق (الإمام أبو حنيفة699 -767م) ومدرسة الحديث الحجاز (الأمام مالك711 – 795م) بعد ربع قرن جاء أستاذ الأساتذة الذي صالح الأمة ودين الأمة وعقل الأمة على المدرستين (الإمام الشافعي 767 -820 م) فضبط علم(القياس)في العراق وعلم (التثبت) من الأحاديث في الحجاز، ووضع أعظم ما يمكن أن يتركه فقيه ومفكر وعالم لأمته (علم أصول الفقه)..
أما كان يكفينا كل هذا؟ دعونا نتساءل بهدوء وترفق: ما كل هذا التراث الفقهي الذي يملأ دنيا المسلمين ويذهب ويجئ به كل هذه الألاف المؤلفة من الدارسين والعلماء على مدى 15 قرن؟ بل وما كل هذا العدد من الدارسين في الكليات؟ أما يكفي تخرج خمسة أو ستة علماء فطاحل كل عام في كل تخصص يتصل بتطور المجتمع واحتياجاته، ولعلنا نعلم أن آيات القرآن المتعلقة بالمعاملات والأسرة والمواريث وما إلى ذلك 128 أية من 6000 أية هي كل آيات القرآن الكريم..
والآية الكريمة في سورة أل عمران تذكر لنا خلافات العلماء من أهل الكتاب وارتباطها بما جاءهم من العلم فحدث بينهم الخلاف والغيرة والمشاعر التي غالبا ما تملك الإنسان ولا يملكها الإنسان (وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم).
لماذا لم تكن السيرة (غير الطيبة) لأهل الكتاب مع(العلم) تجربة تاريخية نعتبرها حتى لا يطعن الحنابلة والأحناف مثلاً في أبو الحسن الأشعري ويقولوا ما قالوا؟ ولا يقول الزمخشري على الغزالي إنه (طويلب) علم مقللا من شأنه أو حتى لا يقول الغزالي نفسه عن نفسه مكثت طويلا ودوافعي كلها طلب الجاه واشتهار الصيت، أو يصف هو علماء عصره بأنهم يخشون على سلطانهم الديني من الزوال ويسقط تاج المهابة من فوق رؤوسهم في وصفه لمواجهتهم للفلاسفة وقتها وللأسف لم ينجحوا.. (طبعا هو الذي جاب الجميع لمس أكتاف، فقهاء وفلاسفة ومتكلمين ومتصوفة.. كان بحق الرجل الذي اجتمعت له ثقافة الإسلام في أعمق وأشمل صورها..) لكه كان نسيج وحده، حجة الإسلام فعلاً.
هل كانت تحتاج الأمة إلى كل هذا بالفعل؟
هل لنا أن نتخيل صدور فتوى في القرن الـ 16عن هيئة العلماء في الدولة العثمانية بتحريم طباعة المصحف!! واستمر ذلك إلى أواخر القرن الـ 19 وأن روسيا سبقت الدولة العثمانية في طباعة المصحف؟ هل تعلمون السبب في إصدار الفتوى؟ هو أن النساخ خافوا من انقطاع مورد رزقهم، ليس الرزق فقط بل والتبرك بهم وتسيدهم على الناس وتفضل سيدي.. تفضل سيدي.. في الموائد والأسواق. وطبعا ليسوا هم من يصدر الفتوى، لكنها شبكات المصالح الموصولة وصلا وصيلا بكل الأوصال..
دعونا نؤكد لأنفسنا الفارق الكبير بين التلاعب والاستهزاء وليعاذ بالله بالأحكام والتشريع فذلك كالكلب إن تحمل عليه أو تتركه.. وبين نموذج التهلل المشرق الذى يفتح العقول والقلوب ويطلق الأبدان والأرواح إلى الدين والدنيا في (أفلح إن صدق).
سأحكى لكم حكاية ذات صلة بموضوعنا حكاها عمنا تشيكوف الروائي الروسي الشهير عنوانها (الرجل الذي عاش في قوقعة) يحكى فيها عن مدرس اللغة اليونانية (بيلوكوف) ذو الأطوار الغريبة والأفعال المريبة، وحدث أن قامت المدرسة برحلة خلوية وجاء مدرس ومدرسة بالدراجات.. فكانت صدمة مروعة له وذهب إلى زميله في نهاية اليوم يأخذ عليه مسلكه في الرحلة وركوبه دراجة أمام التلاميذ فقال له هل هناك ما يمنع ذلك؟ قال له بيلوكوف طالما لم يصدر منشوراً يبيح ذلك فإنه محظور (هو انت منهم؟!) ولما لم يجد منه أذن صاغية قال له متأسفاً: اعذرني يا صديقي إنني مضطر لكتابة تقرير عن زيارتي لك هذه الليلة وموضوعها وتسليمه للإدارة.. فما كان من زميله إلا أن أمسكه من ياقة معطفه (قفاه) وفتح الباب وطرده وألقاه على السلم وتصادف أن رأته فتاة تسكن في نفس الشارع وكان ينوى خطبتها وشاهدته وهو يقع ويتدحرج (حظه رائع!) فقام واقفاً وانتصب وابتسم لها ثم ذهب إلى بيته ونام ولم يستيقظ.. مات.. مع السلامة يا بيلوكوف.