من ضمن أسرار انتصار الأفغان أنهم ليسوا زبائن في سوق الرأسمالية الغربية.
هذا المظهر بالعمامة والجلباب واللحية والأقدام الحافية وأخاديد التجاعيد البادية في الوجوه من وهج الشمس وقرِّ البرد، قد تستدعي النظرة الفوقية من أصحاب الياقات البيضاء وأمواس الحلاقة وكريمات الوجه، وتضع منظر الأفغان في خانة التخلف والدونية.
ولكن حقيقة الأمر هذا المظهر هو أحد أهم عناصر الانتصار.
الرأسمالية الغربية المتوحشة تستهدف تحويل سكان الكرة الأرضية إلى زبائن في سوق الرأسمالية، وبناء مفاهيم جديدة للتحضر، قاعدته الأساسية هو قدرة الزبون على تقليد النموذج الغربي في المأكل والملبس والنظرة للحياة، وتتبُع واستهلاك كل جديد ينتجه الغرب.
ولفهم الموضوع يلزمنا العودة قليلا للوراء، والتحدث عن نموذج “الصين”.
“الصين” كانت مطمعا غربيا لتحويل كتلتها البشرية الهائلة إلى زبائن في سوق الرأسمالية، وفي سبيل ذلك مارس الغرب حربا قذرة بإغراق الصين بالأفيون فيما سمي “حرب الأفيون”، بدأتها بريطانيا ضد الصين بين عامي 1840 و1842، ثم حرب ثانية عام 1857 انضمت لها “فرنسا”، ثم انضمت لهم الولايات المتحدة، وذلك بهدف إخضاع الصين لشرط بفتح أسواقها لتجارة الأفيون.!
وكان الأفيون هو البوابة لتحويل الكتلة البشرية الصينية إلى زبائن في سوق الرأسمالية الغربية.
بعد عقود من التخلف والغيبوبة بتأثير “حرب الأفيون” والتفكك بسبب الغزو الخارجي والحرب الأهلية، بدأت الصين في منتصف القرن العشرين النهوض من كبوتها، في نفس الوقت الذي كانت فيه الولايات المتحدة الأمريكية القوة الصاعدة لقيادة الرأسمالية تضع عينها على الصين بثروتها البشرية والطبيعية الهائلة.
كان أمام الصين أحد طريقين: إما توظيف ثروتها البشرية لاستثمار مواردها الطبيعية وبناء الصين بسواعد صينية، وإما تحويل الصين إلى سوق رأسمالية يستثمر فيها الغرب، وتنمو الصين سريعاً، ويزداد فيها المال ووسائل الرفاهية، ويأكل أهلها الكنتاكي والهامبرجر، وهو طريق سهل للحصول على الدعم الأمريكي الغربي مقابل التخلي عن الخصوصية الثقافية واستقلال الإرادة السياسية.
اختارت الصين الطريق الأول، الطريق الشاق والطبيعي لأي بناء؛ فوقف العالم كله بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية أمام الصين، وحاصرها وعاقبها عقاباً جماعياً، ولم يعترف بنظامها السياسي الجديد، وحرمها من عضوية الأمم المتحدة.
صمدت الصين أمام الضغوط، ونحتت في صخرة تربتها، وتشبثت بأصالة ثقافتها، وظلت نحو خمسة عقود تحرث وتبذر وتزرع لتأتي أجيال اليوم والغد لتنعم بالحصاد.
ولذلك كان من المنطقي جدا أن يكتشف الكاتب الأمريكي “Michael Hastings” سر انتصار طالبان في قوله: “هؤلاء الأفغان لا يشاهدون التلفاز، ولا يعرفون شيئاً عن أفلام رامبو وجيمس بوند؛ ولهذا فهم لا يخافوننا، إنهم لا يرون فينا سوى دخلاء محتلين، ويجب أن يخرجونا مهما كلفهم الأمر؛ لهذا كل أسلحتنا وحروبنا النفسية ضدهم لا تجدي نفعاً”.
وتظل هذه الرسالة موجهة لمجتمعاتنا التي شربت المقلب، ودخلنا كزبائن في سوق الرأسمالية الغربية، وتقمصنا -نحن المجني علينا- دور الجاني، وصرنا ننظر لمن يتمسك بتقاليده على أنه متخلف، وبلغ بنا تقمص الدور لدرجة أن يرى بعضنا غطاء الرأس للنساء من عوائق التقدم، ولبس الجلباب الفلاحي أو الصعيدي أو البدوي وصمة ينبغي حصرها داخل القرى والنجوع، وعدم السماح لها بدخول عالم الزبائن في المنتجعات والنوادي.!
نحن العرب ندفع ضريبة دخولنا كزبائن في سوق الرأسمالية الغربية؛ فمن شروط الدخول كزبون أن تحتقر ذاتك وتاريخك وتقاليدك، وتنظر لأعلى وأنت منبطح أرضا نحو السيد الغربي، وتحاول تقليده (فقط) في مظهره الاستهلاكي؛ لأنك ببساطة: لست شريكاً؛ بل “مجرد زبون”.