في حوار ممزوج بالحدة والغضب أفرغ صديقي مكنون نفسه حاثاً لي ولغيري على مزيد من العمل متهماً لي ولمن كان بمثل حالي على بذل المزيد من الجهد والتفاعل مع قضايا الناس وتقديم الدواء من الشريعة الغراء وترك الخوف جانباً الخوف على الأرزاق والخوف من الاجتهاد فيما يستجد من قضايا.
قلت: لعلها نفثة مصدور خرجت من قلب مليء بحب العلم والحرص على توجيه الناس نحو الخير لعلها صدمة أراد صديقي أن يوجهها لي لكي أتحرك من سكون وأفيق من سبات.
سبق هذا حوار عن نصيب المرأة التي تشارك زوجها في تكوين ثروته بجهدها أو بتدبيرها أو بجزء مما ورثت عن والديها يكبر الرجل وتزداد ثروته وتشيب المرأة وتفتقر من الجمال ومن الصحة، فيفكر أول ما يفكر في طلاقها أو الزواج عليها في أحسن الأحوال، وربما طلقها حتى لا ترثه، أو بتعبير أدق حتى لا تحصل على جزء من مشاركتها له في هذه الثروة التي كانت العامل المشترك الأعظم في تكوينها وعرض لي تجربة أمريكا التي تقضي بحق المرأة في نصف ما يملكه الرجل في حالتي الطلاق والموت وكذلك الرجل.
دعاني صديقي إلى التفكير في هذه المسألة من الناحية الشرعية وإلى الاجتهاد الفقهي في هذه النازلة حرصاً على حقوق النساء وتقديراً لجهودهن.
دعاني إلى تقديم أفكار في المسائل الجديدة لعل المجتمع العلمي والفقهي يتلقاها بالرفض لأنها جديدة، أو المناقشة الهادئة أو الحادة، المهم أن نلقي أحجاراً كبيرة أو صغيرة تحرك المياه الراكدة، فإن طبيعة المجتمعات الديناميكية رفض ما كانت تقبله وقبول ما كانت ترفضه.
دعاني إلى أن يتشارك أهل التخصصات المتعددة في دراسة المسائل المستجدة لتكون الرؤية أوضح، ومن ثم يكون الحكم أقرب إلى الصواب.
إلى صديقي المهموم بالشأن الثقافي والفكري والفقهي ولمن شاركه همه أقول: إن هذه القضايا متشابكة، لكني سأحاول فض هذا الاشتباك:
الواجب على علماء الشرع وأئمة المساجد كبير ثقيل وهم في خوف حقيقي يملأ صدور بعضهم، خوف من الله تعالى أن يضلوا الناس عن صراطه المستقيم باجتهاد يخالف نصوص الشريعة وأصولها.
وخوف من زملائهم ممن يشاركونهم نفس المجال من الاتهامات التي تلاحق كل من يأتي بجديد حسداً من عند بعضهم ومحافظة على القديم الذي يظنون أن فيه الخير كل الخير.
الرغبة في السلامة من ألسنة العوام، فإن الخروج عليهم بما لا يعرفون أحد أهم أسباب عداوتهم.
وخوف من الخوض في غمار العلم يتغير به ما كان ثابتاً ويكتشف أن قناعاته التي بنى عليها لكثير من التصرفات والقرارات لم تكن تستند إلى دليل.
في كل المدارس العلمية والفكرية هناك المحافظون والمجددون ومن ينتحلون صفة محافظ ومجدد.
في كل المدارس العلمية والفكرية تجد من يقول: إنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، ومن يقول: رحم الله أسلافنا اجتهدوا لعصرهم وقدموا رؤى للخروج من أزماتهم وتركوا لنا تراثاً ضخماً يمكن الاستفادة منه والبناء عليه.
في كل المدارس العلمية والفكرية تجد من هم ملكيون أكثر من الملك، ومن يريدون أن يجددوا الشمس والقمر والنجوم.
والسؤال المهم: ممن نطلب أن يقوم بهذه المهمة الجليلة؟ هل نطلبها من كل من وقف بين الناس واعظاً يلهب المشاعر وينزل الدموع مدراراً، أو من كل من حصل على إجازة شرعية من خلال حضوره لمجالس العلم أو قراءته على بعض علماء عصره؟ هل نطلبه من خريجي المدارس الشرعية؟
في عصر التخصص العلمي الدقيق، هل نطلب التجديد ممن درس الحديث أن يفتي في الفقه والفكر والأدب واللغة؟
المسائل التي تتشابك فيها العلوم وتتعدد فيها المؤثرات ما بين اقتصادي واجتماعي وثقافي ونفسي، كيف لشخص واحد أن يتبين الحكم الصحيح في مسألة معقدة كهذا النوع من المسائل ويطلب منه أن يدلي برأي الدين وهو لم يحصل هذه الأنواع المتعددة من المعارف.
حكا لي صديقي عن بعض الفقهاء الذين كتبوا في مسائل اقتصادية أو مالية، فكان كلامهم بعيداً عن الواقع الذي لم يدرسوه أو قرؤوا عنه لكنهم لم يحيطوا به علماً، والحكم عن الشيء فرع عن تصوره، كما حكى لي عن لقاء بين أحد الاقتصاديين وعالم في الفقه، قال رجل الاقتصاد لرجل الفقه: إذا جاءك من يسألك عن مسألة فقهية متعلقة بحالة صحية هل تجيبه؟ قال: لا بد من مراجعة الطبيب، قال الاقتصادي: فلماذا تكتب في الاقتصاد دون أن تجلس مع أهله تتبين منهم بعض المسائل التي تحتاج إلى معرفة دقيقة، وأنا أقول: كيف لفقيه أن يفتي للناس دون أن يلم بأطراف الموضوع.
إننا نثقل على بعض الدعاة حين نضعهم في مكانة لم يضعوا أنفسهم فيها، فأكثر ما يستطيعونه أن يستدروا دموع الناس أو أن يقدموا محاضرة ماتعة يلمون فيها بالأدلة والآثار حتى دون أن يقفوا مع نص منها موفق المسترشد الفقيه الذي ينتفع بتراث الأقدمين؛ ليقدم لنا زاداً يبلغنا لأهدافنا، وليستخرج لنا تجربة حية يمكن تطبيقها على مشكلاتنا، أو يقدم لنا قواعد نتمكن بها من رؤية أفضل للحياة ونتمكن بها من تجاوز العقبات.
إننا نثقل على بعض الدعاة حين نمطره صباح مساء: أين أنتم من كذا وكذا؟ وكأنهم إذا توجه إلى هدف ما تبعهم الناس وانساقوا خلفهم، دخلت مع واحد من الخطباء إلى سوق تجارية، فارتاع من النساء الكاسيات العاريات، وقال: إذا كان هذا هو الواقع، فأين يذهب ما نتحدث به كل جمعة عن العفاف والستر والحجاب؟ وقل مثل ذلك في كثير من القضايا.
بل حتى نستطيع أن نتفهم طبيعة الجماهير، لكل قطاع من الناس شيخ يثقون به، ومهما جاءهم الحق ومهما كان واضحاً إذا لم يمر من بين شفتي هذا الشيخ أو لم يخرج من فمه فلن يسمعوه، ولهذه الطاعة المطلقة حدود، فإذا جئت للمنطقة التي تكلف أتباع هذا الشيخ موقفاً يدفعون ثمنه أو مالاً ينفقونه؛ فستجد الكثير من التراجع والسلبية.
لا يمكن التشكيك في انقياد العامة لعلمائها، لكن ليس كل من أمسك الميكرفون أو ظهر على إحدى الشاشات سيطيعه الناس في الكبير والصغير، بل إنني لأزعم أن رابطة تجمع بين الإنسان ومن يحبه وينقاد له، هذه الرابطة تقوم على التوافق الفكري أو الروحي في كثير من الأمور، وتتقطع هذه الرابطة عند أول اختبار عندما يدعو الشيخ مريديه إلى ما لا يحبون أو ما يشق عليهم فعله، سيتساقط الكثيرون، وسيجد الشيخ نفسه وحيداً أو حوله القليل ممن كانوا يملؤون المساجد.
العالم الرباني الذي يتخلق بأخلاق العلم ويمكن أن نصفه بأنه قدوة حسنة أسبق الناس إلى الخير، وأبعدهم عن الشر، هذا الذي نعول عليه في قيادة الناس إلى الحق.
العالم الذي تضلع من العلوم شرب منها حتى ارتوت ضلوعه بعد أن ارتوى عقله وقلبه وتربى على يد علماء ربانيين يغرسون الخلق قبل المعلومات، ويسعون إلى تطهير طلابهم من دنس الدنيا والتعلق بها، ويدربونهم على عمارة الدنيا والعمل للآخرة والإيمان بالنصوص والسعي لفهمهما.
العالم الذي يجمع الناس حول القيم العليا للشريعة الإسلامية، ويذيب الجليد ويعمل على صنع الجسور التي تربط بين المسلمين.
هذا العالم هو الذي يمكننا أن نطالبه بأن يقدم للناس رأياً ورؤية، ونلومه إذا تقاعس عن أداء دوره، هذا العالم هو الذي يجب أن نسعى لتكوينه ودعمه وطلب الدعاء منه.
هذا العالم هو أحد محاور التنمية وأحد أعمدة النهضة، وبحمد الله تعالى نشهد هذا الصنف العزيز من العلماء ينحت في الصخر يعيش بين الكتب يجتهد في إدراك واقعه وإصلاحه بهدي الأنبياء.
وإلى أن تتيسر له مؤسسة توجهه الوجهة الصحيحة وترسم له الطريق وتجمع الجهود المتفرقة إلى أن يلتحق بذلك يبقى رابضاً في مكانه يكافح نفسه التي تدعوه إلى السعي نحو تحقيق مستقبل مالي أفضل له ولأولاده، ويكافح زملاءه الذين يحققون مكاسب على كل المستويات، ويكافح رغبة أبنائه في الحياة كما يعيش الآخرون.
نشد على أيدي هذه الفئة التي تحترق لتنير للآخرين، وندعوهم إلى القيام بواجبهم نحو أمتهم، ونستحثهم على بذل المزيد، فلن يشبع مؤمن من خير حتى يكون منتهاه الجنة.