بعد نجاح حركة “طالبان” في الميدان، وانتصارهم الكبير على الأمريكان، بعد جهاد استمر 20 عاماً، ثمت تساؤلات تطرح حول إمكانية نجاح الحركة في التحول من الثورة إلى الحكم وإدارة السلطة في البلاد، ولعل أبرز التحديات التي تواجه “طالبان” هو إمكانية نشوب حرب أهلية جديدة، ومن المؤكد أن “طالبان” إن تجاوزت هذا التحدي بنجاح فإنها ستكون على مواجهة باقي التحديات أقدر، كتحدي التنمية الاقتصادية، والمصالحة المجتمعية، وعلاقاتها الدولية.
ولفهم أسباب الحرب الأهلية لا بد أن نتعرف على مكونات الشعب الأفغاني من الناحية العرقية؛ فهو يتكون من مجموعات عرقية عديدة كما يأتي:
البشتون: وهم الحاضنة الشعبية لـ”طالبان”، وتعد قبيلة البشتون أكبر مجموعة عرقية في أفغانستان بنسبة قدرت حديثاً بـ42% من سكان البلاد، وهي ذات تأثير كبير في أفغانستان، ويطلق على لغتهم اللغة البشتونية، ومن أبرز شخصياتهم في الحكومة التي أطيح بها: زلماي خليل زاد، وحامد كرزاي، وأشرف غني، ومن “طالبان”: الملا هيبة الله أخوند زاده، القائد الأعلى لحركة “طالبان”، والملا عبدالغني برادر، رئيس المكتب السياسي للحركة، وهو الذي سيترأس حكومة “طالبان” المقبلة، وسراج الدين حقاني، زعيم شبكة حقاني والرجل الثاني في “طالبان”، والملا يعقوب هو نجل الملا محمد عمر ورئيس اللجنة العسكرية التي تتمتع بنفوذ كبير في “طالبان”.
الطاجيك: ويتحدثون اللغة الفارسية، ويشكلون ما نسبته 26% من السكان، ومن أبرز شخصياتهم: عبدالله عبدالله، وبرهان الدين رباني، وأحمد شاه مسعود، وحبيب الله كلكاني.
الهزارة: بنسبة 9% يتحدثون بلهجة من لهجات اللغة الفارسية ومعظمهم من الطائفة الشيعية، ومن شخصياتهم البارزة: عبدالعلي مازاري، وإسماعيل بلخي، وكريم خليلي.
الأوزبك: وهم الشعب التركي الرئيس في أفغانستان، وهم ناطقون باللغة التركية، ونسبتهم 9%، ومن أبرز شخصياتهم: عبدالرشيد دوستم، وحسن بنو، وكذلك مجموعة التركمان وهم ناطقون باللغة التركية ونسبتهم نحو 3%.
ويبين الجدول الآتي تقديرات حديثة للمجموعات العرقية في أفغانستان:
إن المشكلة العرقية في أفغانستان ليست شيئاً جديداً أو طارئاً، بل هي أمر ضارب في جذوره للتاريخ البعيد، بحيث تتفاقم هذه القضية وتظهر مخاطرها عند الأحداث الكبيرة التي تعصف بالبلاد، فبعد هزيمة الاتحاد السوفييتي في أفغانستان وإعلان انسحابه منها في فبراير 1989م بعد عدوان واحتلال استمر 9 سنوات، تبع هذا الانسحاب مباشرة حرب أهلية بين الفصائل الأفغانية -شركاء السلاح في مواجهة السوفييت- ومعلوم أن المكون العرقي هو الأساس في تكوين الفصائل الأفغانية، واستمرت الحرب الأهلية حتى نهاية أبريل 1992م، ولكن الأمور لم تهدأ فسرعان ما اشتعلت من جديد، وتدخل حركة “طالبان” الميدان -كلاعب أساسي- بشكل قوي، لتعلن في 27 سبتمبر 1996م قيام الإمارة الإسلامية في أفغانستان، وتسيطر على العاصمة كابل لتشتعل الحرب الأهلية من جديد لمدة 5 سنوات أخرى انتهت في 7 أكتوبر 2001م، وهو تاريخ دخول القوات الأمريكية الغازية لتسيطر على أفغانستان وتحتل معظم أراضيها بحجة تفجير “القاعدة” برجي التجارة العالمي في الحادي عشر من سبتمبر.
الحرب الأهلية
والآن، وبعد دحر القوات الأمريكية وانسحابها، كسابقتها السوفييتية، يتساءل المراقبون: هل ستطل الحرب الأهلية برأسها من جديد؟ وهذا ما يتمناه الذين يتربصون بـ”طالبان” وأفغانستان الدوائر، أم أن “طالبان” استوعبت الدرس واستفادت من أخطائها السابقة؟ وهذا ما يرجوه المشفقون على أفغانستان.
إن الدول المحيطة بأفغانستان لا تشعر بالراحة من سيطرة “طالبان” على الحكم في أفغانستان، باستثناء باكستان صاحبة أكبر حدود مع أفغانستان (الحدود الجنوبية والشرقية)، وستحاول كل من إيران (غرباً)، وتركمنستان وأوزباكستان وطاجيكستان (شمالاً)، الهيمنة على المناطق الحدودية مع أفغانستان عبر دعم ورعاية الفصائل الأفغانية (الميلشيات) وأمراء الحرب من عرقيات تلك الدول للسيطرة على الولايات الأفغانية المحاذية لحدودها، لتشكل حاجزاً بينها وبين “طالبان”، ولتكون بمثابة رجال حرب بالوكالة لمصالح تلك الدول، ومن المرجح أن تقوم روسيا بدعم الجمهوريات السوفييتية السابقة المتاخمة لأفغانستان، ومساعدتها في مواجهة “طالبان”؛ لأن روسيا تخشى أن ينتشر “التطرف” بين سكانها المسلمين المتزايدين عدداً وتمسكاً بدينهم.
وللنجاح في هذا التحدي، قامت “طالبان” منذ اليوم الأول -بل وقبل إتمام الولايات المتحدة سحب قواتها- بإصدار التصريحات الإيجابية المطمئنة لعموم الشعب على مختلف مكوناته القبلية والسياسية، وأعلنت عفواً عاماً عن جميع قوات الجيش الأفغاني من قيادات وجنود وعن جميع أفراد الحكومة والعاملين في أجهزة الدولة المختلفة، بل ودعتهم إلى الاستمرار في وظائفهم، وبسطت الأمن في كابل العاصمة التي كان يعمها أعمال السلب والنهب والفساد، وسحبت البساط من تحت أقدام دعاة حقوق المرأة من حيث التعليم والتوظيف، وأرسلت رسائل مطمئنة للمجتمع الدولي بأنها لن تسمح أن تكون أفغانستان منطلقاً لأعمال “القاعدة” أو “داعش”.
ولا شك أن هذه الإجراءات وحدها لن تكون كافية لتجنب الحرب الأهلية، فقد أعلن أحمد مسعود تمرده وقام بقيادة تحالف الشمال ليعلن تمرده على حكم “طالبان”، واتخذ من بنجشير منطلقاً له، وهو -بلا شك- يحظى بالدعم من الدول الغربية كأمريكا وفرنسا ومن دولة الجوار طاجيكستان، وهو عرقياً ينتمي للطاجيك، إلا أن “طالبان” تمكنت من تحرير 4 ولايات من أصل 6 في إقليم بنجشير بسرعة قياسية، نظراً لصعوبة الانتصار في تلك المنطقة الحصينة الوعرة التي قهرت الإنجليز والسوفييت والأمريكيين.
ومن المتوقع أن تعلن “طالبان” عن الحكومة الجديدة، يوم الجمعة القادم 10 سبتمبر، برئاسة عبدالغني برادر رئيس مكتبها السياسي، ونرجو أن تستوعب “طالبان” في حكومتها مختلف الأطياف العرقية خاصة المؤثر منها؛ علها تخفف من احتمالات نشوب حرب أهلية واسعة بالتأكيد لن تحمد عقباها.
إن استيعاب الطاجيك والأوزباك والهزارة سيحقق فرص نجاح كبيرة للمرور بأفغانستان إلى بر الأمان، ولا بد من إقامة علاقات جيدة مع دول الجوار خاصة إيران وطاجيكستان وأوزباكستان، وفي سبيل ذلك ينبغي على “طالبان” استثمار علاقاتها الطيبة مع باكستان وتركيا وقطر للتوسط في تحسين علاقات أفغانستان مع دول الجوار.
والله المستعان.