قد يبدو لبعض المتابعين أن التجربة المغربية في الديمقراطية وتداول السلطة قد تعثرت، وأن فكرة التغيير من الداخل والتدرج فقدت مقومات وجودها، وأن أنصاف الحلول لن تجدي في الإصلاح المنشود، وأن خسارة العدالة والتنمية الإسلامي خير دليل على فشل التجربة برمتها والفلسفة التي قامت عليها هذه التجربة.
قد تبدو التجربة المغربية في التحول الديمقراطي تجربة غير مكتملة في حكم الشعب لنفسه، إذا ما تم مقارنتها بالنماذج والتجارب الغربية الحديثة، لكنها أيضاً تجربة متقدمة في مسار التحول الديمقراطي مقارنة مع الحالة اللاديمقراطية التي تعيشها المنطقة العربية.
صعود التيارات الإسلامية بعد التحول الديمقراطي حالة فرضتها طبائع الأشياء، وقد كان لإقصاء التيارات الإسلامية في فترات الحكم الشمولي، وعدم وجود تجارب فشل سابقة في الإدارة، وطبيعة الخطاب الشعبي المبني على الحالات المثالية، والوعود الكبيرة القائمة على المراهنة في نظافة اليد.. كلها أمور تدفع الشعوب نحو التيارات الإسلامية.
وقد تقدم حزب العدالة والتنمية في انتخابات 2011 وحصد 107 مقاعد، وأعاد التقدم في انتخابات 2016 وحصد 125 مقعداً، إلا أنه عجز عن تشكيل الحكومة في الدورة الثانية بشخصية قائده “بن كيران”؛ ليدخل الحزب في حكومة ائتلافية مررت بعض الملفات الصعبة، كان أهمها: التطبيع مع الكيان الصهيوني، وتشريع استخدام القنب الأحمر، وفرنسة التعليم، وإجراء إصلاحات اقتصادية قاسية كانت تقوم فلسفتها على المساس بجيوب الشعب؛ من رفع المحروقات، وفرض الضرائب التي مست الطبقة المتوسطة والفقيرة، التي تمثل الخزان البشري التصويتي الكبير للتوجهات الإسلامية، إضافة إلى عقود المعلمين وما رافقها من إشكاليات ومساس بهذه الطبقة الاجتماعية المؤثرة.
فلا شك أن خسارة “العدالة والتنمية” تضافرت عليها جملة من العوامل الخارجية المتعلقة بالتطبيع والفرنسة، وعوامل داخلية تتعلق بحياة الناس ومعاشهم، وعدم إنجاز العدالة والتنمية ما يستحق التجديد في هذه الملفات، وخلافات الحزب الداخلية، وغياب القيادي الأول صاحب الشعبية الكبيرة عن المشهد “بن كيران”، إضافة إلى دور حركة العدل والإحسان الإسلامية بالتحريض على الانتخاب، والامتناع عن التصويت بحجة أن الإصلاحات لم تكن بالقدر الكافي.. هذا التحريض الذي لقي استجابة من حواضن حزب العدالة والتنمية المتدينة، خاصة بعد انتشار حالة الإحباط وغياب الإنجازات على الأرض.
مؤشرات ودلائل
لخروج العدالة والتنمية عدة مؤشرات ودلائل؛ أهمها أن الأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية كانت حالة مؤقتة وممراً إجبارياً في عمر الديمقراطيات الوليدة، وأن الدراسات المستقبلية التي توقعت تراجع ما يسمى بـ”الإسلام السياسي” ما زالت تثبت مصداقية توقعاتها، وأن الشعوب الديمقراطية لا تعطي صكوكاً انتخابية على بياض، ولا تعطي تفويضاً مدى الحياة.
كما أن غياب حزب العدالة والتنمية يؤشر إلى أن الديمقراطية المغربية ما زالت تعمل، وأن الشعب قادر على التقييم والبحث عمن يلبي مصالحه، ويحقق طموحاته وأحلامه، بالإضافة إلى أن خسارة “العدالة والتنمية” جاءت بأول تطبيق فعلي لتداول السلطة عبر الصندوق في بلاد الربيع العربي؛ إذ إننا سنكون أمام انتقال للسلطة من الحزب الحاكم إلى حزب جديد، كان يمثل أقلية برلمانية في الدورة الأخيرة.
لكن خروج العدالة والتنمية المغربي –بلا شك- منعطف مهم في خط تراجع “الإسلام السياسي”، إلا أنه تراجع يؤشر إلى أن الشعوب العربية يمكنها أن تتعلم من تجاربها، وأن الصندوق يمكن أن يصحح نتائجه، ويجبر الجميع على أن يبقى يعمل على تحديث نفسه وبرامجه بما يناسب احتياجات الناس وأولوياتهم.
خروج العدالة والتنمية يقول لنا: إن التيارات الدينية المحافظة ليست القدَر الجبري الدائم الذي تنجبه صناديق الانتخاب، (كما يشيع المروجون للفزاعات الإسلامية الذين يساهمون في تعطيل دواليب التحول الديمقراطي بحجة الخوف من سيطرة الجماعات الإسلامية السياسية على الحياة الديمقراطية لزمن طويل، الصناديق يمكن أن تلد قيادات وأحزاب جديدة تقود الدول نحو الرفاه والخلاص)، وأن بوصلة الشعوب لا تضل في تصحيح مسيرتها والبحث عن مصالحها، وأن التجربة خير طريقة لتعليم الشعوب جوهر الممارسات الديمقراطية، وهدفها وفلسفتها، وإنضاج الممارسات على الأرض.
وتجدر الإشارة إلى أن ردود الفعل حول خسارة حزب العدالة والتنمية من قبل بعض التنظيمات والشخصيات الإسلامية كان يتصف بعضها بالتسطيح؛ إذ إن بعضها انتقص من التجربة الديمقراطية، وكأنه كان يفهم الديمقراطية ونجاح التجربة بأن يبقى في الحكم.
والبعض الآخر انتقص من فكرة التدرج، وكأن الإصلاح الكامل ووضعه بيد الشعب، وتحديد صلاحيات الملك، كانت ستحسن أداء العدالة والتنمية والأحزاب الإسلامية في إنجاز ما يحتاجه الناس، هذه الفئة تنطلق من فكرة إما كل الشيء وإما لا شيء، وهذا غير صحيح في علم السياسة والنضال السياسي؛ إذ إن الإصلاح والتحول الديمقراطي لا يكون بكبسة زر، وإن التحولات الديمقراطية تحتاج نضالاً سلمياً طويلاً وتحسيناً، إلى أن يصل الشعب والدولة إلى أقرب حالة للكمال المنشود، وهو أمر متغير.
والبعض الآخر فسر الموضوع تفسيرات إقليمية، وجعل من التطبيع مع الكيان الصهيوني سبباً رئيساً، ناسياً أن التطبيع كان متعلقاً بملف الصحراء الغربية التي تعتبر قضية وطنية مغاربية شديدة الحساسية لدى الشعب قبل القصر، وأنها تمثل قضية سيادة وطنية وأمن قومي مغربي شعبي ورسمي.
نعم خسر العدالة والتنمية السلطة بعد عقد من الحكم، وقد يصحح مسيره ويعود للحكم من جديد، وقد لا يعود إذا أحسن خصومه إدارة الدولة، وعجز هو عن تحديث نفسه، لكن بكل تأكيد، فإن العدالة والتنمية استطاع توطين الديمقراطية ومغربتها عربياً، وتثبيت التجربة الديمقراطية على ما بها من ملاحظات. لقد أوجد “العدالة والتنمية” المقاربات، وقدم التنازلات، وحمى الديمقراطية، وجذّرها في ثقافة الشعوب؛ فما دامت الديمقراطية المغربية بخير فالعدالة والتنمية بخير، وقد كسب الرهان ولم يخسر، وما دامت الديمقراطية المغربية تعمل في تداول السلطة ونقل مقبض قيادة الدولة من يد إلى يد؛ فالعدالة والتنمية حقق إنجازاً كبيراً ومنعطفاً مهماً في مسيرة بناء المغرب الجديد، حتى إن وجد نفسه خارج السلطة، وما دام الشعب يذهب كل دورة انتخابية لتلد صناديقه قيادة جديدة لإدارة شؤون البلاد؛ فالعدالة والتنمية أدى ما عليه، وساهم في تثبيت حجر الأساس في الديمقراطية العربية الوليدة.