حين وصل نبي الله موسى عليه السلام إلى مدين كان قد بلغ به الإرهاق النفسي والبدني مبلغاً كبيراً (مطارد ملاحق مرتحل مسافر) ليس هذا فقط، بل وكان سؤال الغد المجهول يبرز كل ساعة أمام عينيه مختلساً لنفسه من تفكير نبي الله نصفه، سيكون الخوف رفيقاً دائم القرب لنبي الله موسى، آيات كثيرة وردت في القرآن الكريم وأنبأتنا بذلك، في سورة “طه” الآية (76)، و”النمل” الآية (10)، و”القصص” الآيات (18)، (12)، (25)، رغم أنه نبي ورسول ومن من أولى العزم وهو بعد كليم الله.
لكنه الإنسان فينا يأبى إلا أن يطل برأسه دائماً في مجريات أيامنا وحياتنا صائحاً بصوته الخاص، خوفاً كان أم قلقاً أم حزناً أم سؤالاً، إلخ، ثم سرعان ما تدركنا جميعاً رحمة الله فنتذكر ونكون من عباد الله المنيبين المتوكلين، رأينا سؤال نبي الله نوح، وخوف نبي الله موسى، وقلق نبي الله زكريا، وحزن نبي الله يعقوب، وقبل كل ذلك رأينا الخليل إبراهيم يعلق على بشرى الملائكة بقوله: (أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ) (الحجر: 54)، حتى لكأن الملائكة انطلقوا من فورهم قائلين له بسرعة نكاد نراها في الآيات الكريمة: (فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ) (الحجر: 55)، فيسرع قائلاً: (وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ) (الحجر: 56).
هؤلاء هم أنبياء الله ورسله، بشراً كانوا عليهم السلام أجمعين، من طينتنا كانوا وليسوا من طينة أخرى، ولعل تلكم الإشارات في سير الأنبياء والمرسلين من فيوضات القرآن الكريم على المؤمنين في كل زمن وحين، لنتأمل ونفكر ونتذكر.
أنا إنسان، وأنا ما أنا عليه، ولكن! ولكن ماذا؟ ولكن دائماً وأبداً هناك رحمة الله وتدبير الله ومعية الله ونصر الله وهداية الله ونور الله، فالأمر كله بيده وإليه يرجع الأمر كله، وإليه سبحانه المنتهى، فينتبه من ينتبه ويتذكر من تذكر ويسارع من يسارع ويعجل من يعجل، والآية الكريمة في سورة “الأعراف” تنبهنا: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) (الأعراف: 201).
الحاصل أن سيدنا موسى عليه السلام وصل، وذهب إلى حيث الماء فوجد على عين الماء زحام من الناس يتدافعون لأخذ حاجاتهم منه، كلهم كانوا ذكوراً بطبيعة الحال، ويبدو أنهم لم يكونوا على القدر الكافي من التحضر والمدنية والأخلاق، فينظمون أنفسهم في صفوف مثلاً أو يكون الوقوف بأسبقية الحضور أو بحسب السن والعمر والحالة، وبطبيعة الحال لن يكون وسط هذا الجمع المتدافع نساء، إذ عليهم الانتظار وإن طال!
قبل أن يلبى نداء نفسه للحصول على الماء وهو القادم من سفر طويل، تلفت نبي الله موسى فوجد امرأتين في حال ابتعاد وانتظار حتى يفرغ جموع الذكور الأقوياء (وعفواً لعدم وصفهم بالرجال)، فتقدم منهما سائلاً عن هذا الابتعاد والانتظار، فقالتا: ننتظر انتهاء الذكور المتدافعين، ودون إطالة في الحديث وفوراً وحالاً، قدما السبب بأن الوالد لا يستطيع القيام بذلك لتقدم سنه، بما أن سيدنا موسى الغريب عن المكان وجموع المكان تقدم بسؤال: ما خطبكما؟ فطبيعي أن يكمل الاستفهام: أين رجال الأسرة؟ فكانت الإجابة قبل السؤال، دون إطالة لمدة الحديث والكلام.
وسقى لهما نبي الله موسى الكليم وهو الخائف المطارد المهدد الراحل المرتحل إلى المجهول، وكلنا نعرف ما صار وكان بعدها، بل وكيف أخذت المروءة والنجدة، وبالأحرى الخلق النبيل، كيف أخذ كل ذلك سيدنا موسى إلى بوابات الفرح والفرج والانطلاق إلى حياة جديدة، وهكذا دائماً يكون.
وأحب هنا أن أشير إلى أن هناك مواقف في حياة الأنبياء بها من الصعوبة ما يكافئ كونهم أنبياء ورسلاً يأتيهم الوحي من السماء وقد يجد الناس العاديون صعوبة في التمثل بها كلها، ومبررهم أنهم موصولون بوحي من السماء، وقد يكون ذلك مقبولاً، لكن هناك مواقف أكثر وأكثر يكون الأنبياء والرسل فيها بشراً، يتصرفون تصرف البشر، ويسلكون سلوك البشر، فقط يكون منهم سلوك البشر الأخيار رقياً ونبلاً وصفاءً ونقاءً، وما أحلاها وأجدرها من قدوة واقتداء.
“(ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط”، سمعنا هذه المقولة الصاعقة وصدقناها ورددناها مع الزعيم مصطفى كامل (1874 – 1908م)، والحقيقة أن هذه المقولة أقل ما يمكن أن يقال عن هكذا إنسان لا يقول صباح كل يوم: إلا نفسي نفسي، ويا ليت كان ما هو أقسى منها، سمعنا من يقول في فخر فخير: “كل واحد يحمل همه”، مضيفاً أنه لا يعطي أحداً ولا يأخذ من أحد! ومتصور بذلك أنه وصل إلى المعادلة الذهبية التي غابت عن أولئك المجانين الذين يتعاطون بينهم بالحب والسخاء.
يقولون: إن الذي يعيش لنفسه فقط كأنه غير موجود أصلاً، بل ويا ليته لم يكن موجوداً من الأساس، فهو عبء ثقيل على هذه الحياة، إنسان قرر خلع كل ما يستر إنسانيته، ويا لسوء سوء من يضطر إلى معايشة ومقاربة هذا الكائن البيولوجي!
في المفهوم الإسلامي سنجد أن صفة “الأنانية” من أشد الصفات سوءً وإنكاراً ومقتاً، سمعنا ذلك في الآية الكريمة في سورة الحشر التي تصف أهل الإيمان بأعظم وأجمل وأنبل وصف “الإيثار”؛ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9)؛ أي اضطرار وحاجة، فما بالك بمن كان ميسوراً موسراً؟! لنا أن نتخيل إذن أنه وفق مراد الآية أنه سيكون سخاءً وكرماً يسير على قدمين.
الأخ الشقيق للأنانية هو ذاك الكريه المكروه “الشح” والعياذ بالله، وأبرز صورة له هو شح الإنفاق، لكنه متعدد الصور والأشكال، في العلم والمعرفة مثلاً، والشح على المتعلم أو زملاء العمل والدراسة لمنع نموهم وتفوقهم، كذلك يكون في الشعور والعاطفة، والشح بها على الآخرين بدرجات قربهم منا، وهي من الصورة الكريهة للشح وتساهم بدرجة كبيرة في تقطيع الأرحام وتمزيق البيوت، وهكذا، كثيرة هي في الحقيقة صور الشح.
ويبدو لنا من الآية الكريمة: (وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الحشر: 9) أن المسألة من الطباع البشرية الممدودة من بداية البشر على الأرض، بل ويبدو فعلاً أنها تحتاج إلى مقاومة وتحصين للوقاية من هذا الطبع اللئيم اللعين.
“لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل مسلم أبداً”، هكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال أيضاً في ذلك: “أحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً، ولئن أمشي مع أخي في حاجة أحب إليَّ من أن أعتكف في هذا المسجد شهر”.
لكنْ هناك حديث له وقعه العظيم على نفس المسلم الذي يرى ويتبصر بالحال والمصير إذ يقول صلى الله عليه وسلم: “ما ذئبان جائعان أرسلا في حظيرة غنم، بأكثر إفساداً لها من حب المال والجاه في دين الرجل”.
الذئبان الجائعان سيفترسان الغنم ولن يتركاها سوى عظام متكسرة، هكذا حب المال وهو شيء يكاد يكون شائعاً للغاية، لكن حب الجاه هذا هو الخطر الأخطر لأنه يمس المجتمع في قيمه وثوابته، كما يمسه في مؤسساته وهيئاته والأكثر تضرراً هي روابط الأجيال التي ترى وتتلقى نماذج الكذب والادعاء والرغبة الشرسة في الصعود وذيوع الصيت والشهرة وغزو الدنيا والتعالي على الناس، وأثر ذلك كله على تفكك فكرة “الصالح العام” والإخلاص فيه.
الشاعر الكبير إليا أبو ماضي (1890 – 1957م) له قصيدة مشهورة عن الأنانية والأثرة، يقول فيها:
وتينة غضة الأفنان باسقة قالت لأترابها والصيف يحتضر
بئس القضاء الذي في الأرض أوجدني عندي الجمال وغيري عنده النظر
إلى أن يقول:
لأحبسن على نفسي عوارفها فلا يبين لها في غيرها أثر
ولم يطق صاحب البستان رؤيتها فاجتثها فهوت في النار تستعر
وفي النهاية:
من ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإنه أحمق بالحرص ينتحر
شجرة تين تمردت على الطبيعة الكونية التي يجب أن تكون عليها المخلوقات، رفضت أن يأكل منها الطير والإنسان بل وتجاوزت بالرفض أن ينظر إليها أحد، بخل وشح وتقتير وعدم رغبة بالعطاء من النوع بالغ التكلفة وقد كان، وسيأتي البستاني ويراها كذلك يابسة منكمشة فيجتثها من جذور أهلها ويرميها في النار كحطب، وسيكون هذا حرفياً مصير كل من عنده خير ويمنعه.