منذ أيام أجري الرئيس الأذري إلهام علييف مقابلة مع وكالة “الأناضول” التركية، قال فيها إن أذربيجان رصدت عبر الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة دخول شاحنات إيرانية إلى منطقة قره باغ، وأضاف أن هذه ليست المرة الأولى التي تشهد “دخول شاحنات إيرانية بطريقة غير قانونية” إلى المنطقة، مشيرا إلى أنه رغم إعراب باكو عن غضبها للطرف الإيراني، إلا أن “هذا الأمر قد تواصل”.
أزمة الشاحنات
ويبدو أن نوعا من التصعيد بين البلدين عاد ليلوح في الأفق، حيث قال الرئيس علييف إن “سلوك أذربيجان وإجراءاتها كانت على أساس العلاقات الودية، حيث شهدت المرة الأولى التحذير الشفهي، والمرة الثانية مذكرة رسمية، فيما شهدت المرة الثالثة نشر نقاط التفتيش وقوات حرس الحدود والجمارك والشرطة، مما أدى إلى توقف وصول الشاحنات من إيران”.
وقد انتقدت إيران احتجاز أذربيجان لسائقين إيرانيين يزودون أرمينيا بمختلف المؤن الاستراتيجية، ولكن باكو كانت أكثر هدوءًا.
نشبت الأزمة الأخيرة عندما بدأت أذربيجان في فرض رسوم على الشاحنات الإيرانية التي تتجه إلى جنوب أرمينيا عبر أجزاء من الأراضي الأذربيجانية في بعض الأماكن.
في البداية، التزمت إيران الصمت حتى بعد أن أكدت الشرطة والجمارك الأذربيجانية هذه الممارسة. وأكد المتحدث باسم وزارة الداخلية الأذربيجانية إحسان زاهدوف في اليوم التالي أن السائقين احتجزوا لأنهم “دخلوا أذربيجان بشكل غير قانوني من أرمينيا وستتخذ الإجراءات ذات الصلة”.
وردت وزارة الخارجية الإيرانية بالمطالبة بالإفراج عن السائقين واللقاء بالمسؤولين الأذربيجانيين لحل المشكلة. وعقدت سلسلة اجتماعات منذ ذلك الحين لكن مصير السائقين لا يزال مجهولا.
في هذه الأثناء قام عدد من المسؤولين الإيرانيين بإصدار تصريحات حادة ضد أذربيجان.
فكتب أحد أعضاء البرلمان الإيراني، أحمد نادري، على تويتر إن المسؤولين الأذربيجانيين “تجاوزوا الحدود” وأدلوا بتصريحات “أكبر من حجمهم وقدرتهم”، حسبما ذكرت صحيفة “طهران تايمز”.
وقال نائب آخر، محمد رضا أحمدي سنجاري، إن باكو أصبحت متعجرفة بسبب انتصارها العسكري على أرمينيا، والذي تحقق إنه حسب قوله بسبب “المنشطات التركية”، في إشارة إلى دعم أنقرة لأذربيجان. وأضاف سنجاري مخاطبا الأذريين: “عمر بلدكم الصغير أقل من عمر أصغر عضو برلمان[إيراني]”.
مناورات على الحدود الأذرية
وتطرق الرئيس الأذري إلى المناورات العسكرية التي أجرتها إيران مؤخرا بالقرب من الحدود الأذربيجانية، ووصفها بأنها “مثيرة للدهشة” حيث لم تكن هناك مناورات مثلها على مدى السنوات الثلاثين الماضية.
وقال: “من حق أي دولة إجراء مناورة عسكرية داخل أراضيها، فهذا حق سيادي لها، ولكن السؤال هنا لماذا أُجريت هذه المناورة الآن؟ ولماذا على حدودنا؟ هذا ليس سؤالي، وإنما سؤال يطرحه المجتمع الأذري وجميع الأذريين في جميع أنحاء العالم. لماذا لم يجروا مناورات في هذه المنطقة في سنوات الاحتلال” في إشارة إلى سيطرة القوات الأرمنية على معظم إقليم قره باغ منذ العام 1992 وحتى الحرب الأخيرة التي وقعت في الخريف الماضي.
وقد تفاقم التوتر بسبب بين إيران وأذربيجان بسبب التدريبات العسكرية البحرية التي أجرتها تركيا وأذربيجان بشكل مشترك في بحر قزوين. واحتجت وزارة الخارجية الإيرانية بأن التدريبات تنتهك اتفاقية دولية تحظر دخول القوات العسكرية الأجنبية إلى البحر. ولكن المحللون الأذريين ردوا بأن إيران هي الدولة الوحيدة المطلة على بحر قزوين التي لم تصادق على الاتفاقية.
ومن ثم أجرت إيران تدريبات عسكرية منفردة خاصة بها بالقرب من حدودها مع أذربيجان كرد على التدريبات التركية الأذرية وهو ما أثار العجب لدي الأذريين.
خسائر استراتيجية فادحة
القضية ليست قضية مناورات أو شاحنات، ولكن القضية أكبر من ذلك بكثير. فقد حدثت تطورات خطيرة في الآونة الأخيرة، كان من أخطرها التطورات التي نتجت عن انتصار أذربيجان في حرب قرة باغ في العام الماضي التي أثرت بشكل مباشر علي إيران المأزومة داخليا وخارجيا
فإيران ممتعضة بشدة من التغييرات البنيوية التي نتجت عن حرب قرة باغ حيث اكتسبت روسيا وتركيا قوة متزايدة في المنطقة، بينما تراجع نفوذ إيران في المنطقة.
وقد فاقمت نتائج الحرب التحديات الداخلية المتوقعة من السكان الأذربيجانيين الذين يشكلون ثاني أكبر عرقية في إيران، (أكثر من 20 مليونا من الأذريين) ويعارضون دعم طهران لأرمينيا في الحرب مع أذربيجان.
وقد تجاهلت أنقرة وموسكو طهران إلى حد كبير في وضع الترتيبات الأمنية لما بعد الحرب. وإذا كان موقف تركيا من تجاهل إيران مفهوما، بسبب التنافس التاريخي بينهما، إلا أن موقف روسيا من تجاهل إيران عند وضع الترتيبات الأمنية لنا بعد حرب قرة باغ لا يمكن فهمه إلا في إطار استهانة موسكو بطهران رغم أنها تتحالف معها في سوريا.
فهم الاستراتيجية الإيرانية
يقول رجل الدين اللبناني الشيعي صبحي الطفيلي، في إحدى مواعظه، أنه كان في طهران في عام 1992 وفوجئ بإيران الرسمية مبتهجة بانتصارات الأرمن (الأرثوذكس) على الأذربيجانيين (المسلمين الشيعة) يقول هالني ما أري وما أسمع فتوجهت لوزير خارجية إيران آنذاك، علي أكبر ولايتي، لأستوضح الأمر لعلني أفهم!
ليتني ما سألته وليته ما أجاب!
سألته لماذا تقفون مع الأرمن ضد إخواننا الشيعة المظلومين في أذربيجان، يقول صبحي الطفيلي، فقال وزير الخارجية بالحرف الواحد كما يذكر الطفيلي” أرمينيا علي حدود تركيا ونحن نريد أن نمنع تواصل تركيا مع الدول وسط آسيا التركمانية، نريد أن تشكل أرمينيا سدا بين تركيا وجمهوريات آسيا الوسطي الأتراك المسلمين.” “قلت ليتني ما سألتك!” يعلق الشيخ صبحي الطفيلي.
والحق أن هذا التبرير الذي قدمه علي أكبر ولاياتي وزير الخارجية الإيراني يفضح الأساس الاستراتيجي الذي تبني عليه سياسة جمهورية إيران “الإسلامية” التي يهيمن عليها العرق الفارسي.
فقد اختارت إيران العرق ولم تختار الدين ولا المذهب الديني في موقفها من صراع أذربيجان. فلو كانت اختارت الدين لوقفت مع كل من تركيا وأذربيجان في الصراع ضد الأرمن. ولو اختارت المذهب لما تركت الأذريين الشيعية نهبا للقتل بمئات الآلاف على أيدي الأرمن “الأرثوذكس” المتحالفين آنذاك وما زالوا مع الروس “الأرثوذكس”
هذا هو ما يمكن أن نقرأه من الموقف الإيراني الثابت من الصراع بين أذربيجان وأرمينيا. استراتيجية إيران، في هذا الموقف تحديدا لا تنطلق من منطلق ديني ولا من منطلق طائفي بل تنطلق كما هو واضح من منطلقات إثنية، فهي ضد أذربيجان لأنهم أتراك، ومع أرمينيا لأنها يمكن أن تشكل حاجزا بين تركيا ومحيطها التركي في آسيا الوسطي، فهل في هذا مصلحة العرق الفارسي الذي يهيمن علي الدولة الإيرانية، والذي يتجاوز بقليل نسبة الـ 50% من الشعب الإيرانية.