بداية، يلزم تأكيد أن الإستراتيجية العسكرية لحرب أكتوبر 1973 المجيدة كانت إستراتيجية مصرية صميمة، لم تستورد من الشرق أو من الغرب، إستراتيجية تأسست من واقع مرير عاشته مصر بل والأمة العربية كلها بعد نكسة يونيو 1967، ثم غذتها ودعمتها بمتابعة واستغلال التقدم العلمي والتكنولوجي في مجالات الصراع العالمي، واضعين في الاعتبار قيود السياسة الدولية بالغة التعقيد التي كانت سائدة في ذلك الوقت، وكذا من واقع دروس الحروب السابقة ولتخرج مصر بإستراتيجية شاملة للدولة قد صاغتها وأدارتها بالعرق والدم على أرض الواقع.
وعلى الرغم من أن حربنا في أكتوبر 1973 كانت حرباً عادلة لأنها قامت لاسترداد الحق، فإنه لم يكن غائباً عن الذهن قيود وحدود الصراع المسلح في ظروف هذا العصر، فهي حرب دارت خلال موقف عالمي بالغ التعقيد قائم على ضوابط التوازن النووي وسياسة الوفاق بين القوتين العظميين وفرضهما حالتي اللاسلم واللاحرب، والاسترخاء العسكري في المنطقة، مع تناقض اهتماماتهما السياسية والإستراتيجية في منطقة الصراع، من خلال هذه المفاهيم كان لا بد من وضع إستراتيجية عليا تحسب الخطوات وتحدد آثارها وردود فعلها في المنطقة العربية وفي العالم بعد أن فرض الموقف الدولي أسلوباً خاصاً في إدارة الصراع في المنطقة قيد شكله ومداه.
وبناء على ذلك، تم التخطيط لحرب أكتوبر 1973 لتكون حرباً محلية شاملة تستخدم فيها الأسلحة التقليدية فقط، ويكون لها أهداف إستراتيجية حاسمة، بحيث تقلب الموازين في المنطقة وتهدم نظريات الطرف الآخر (إسرائيل) ودعائم إستراتيجيتها، وتمتد زمنياً لفترة تتيح تدخل الطاقات العربية الأخرى بشرط نجاح قواتنا مع بدايتها وتفرض ثقلها على نتائج الحرب، وتحقيقاً لذلك كانت الاعتبارات الرئيسة التي تأسست عليها الإستراتيجية العسكرية المصرية لحرب أكتوبر قد تركزت في الأسس التالية:
الأساس الأول:
كان من دروس نكسة يونيو 1967، ففي تلك الحرب لم تكن لدينا إستراتيجية شاملة للدولة تحقق التوازن والتنسيق بين الهدف السياسي للدولة وقدرتها العسكرية، بل إن القوات المسلحة فوجئت في هذه الحرب بقرارات سياسية لم تكن على علم بها لتستعد لتنفيذها، وعندما بدأت في تنفيذها كانت في صورة مظاهرة عسكرية لدعم القرار السياسي، ودون أن تعلم الهدف الإستراتيجي العسكري المطلوب تحقيقه، وبالتالي فقدت القوات اتزانها قبل أن تبدأ الحرب، وعندما نشبت هذه الحرب كانت تصرفات القيادة العسكرية منفصلة عن القرارات السياسية ولا تتوافق معها.
ولقد أمكن تدارك ذلك أثناء الإعداد والتخطيط لحرب أكتوبر 1973، حيث وضعت إستراتيجية شاملة للدولة تؤدي فيها القوات المسلحة الدور الرئيس وتؤيدها باقي مصادر وقوى الدولة الشاملة الأخرى، ولعل أبرز سماتها أن التحرك السياسي السليم هيأ أنسب الظروف المحلية والإقليمية وأيضاً العالمية لبدء العمل العسكري المحسوب جيداً، وبنفس المهارة أديرت السياسة خلال الحرب لتدعيم العمل العسكري، وأيضاً استغلال نتائجه بعد الحرب.
وكان الأساس الثاني في الإستراتيجية العسكرية لمصر:
هو تحدي نظرية الأمن “الإسرائيلي” وهدمها التي كانت تعتمد على الردع المادي والنفسي والاحتفاظ بالحدود الآمنة على خط قناة السويس.
ولقد اعتمدت “إسرائيل” في تطبيق هذه النظرية على عدة عناصر قوية كان علينا أن نتغلب عليها أو نبطل تأثيرها، وقد تطلب ذلك اتخاذ قرار الحرب بمبادأة من جانبنا باستخدام القوة المسلحة، حيث إن ذلك يعني تحدياً عملياً لأسلوب الردع النفسي، كما كان الانتقال من حرب الاستنزاف (رغم ضراوتها) إلى شن هجوم شامل يعني أيضاً هدم أسلوب الردع المادي، كما كان قرار الحرب في حد ذاته تحدياً لهذه النظرية.
وأيضاً، ولهدم قناعة الجانب الآخر بالاحتفاظ بالحدود الآمنة مع مصر وعلى جبهة قناة السويس، فقد كان علينا اختراق وتدمير خطوطه وتحصيناته الدفاعية على هذه الجبهة مهما استندت إلى موانع طبيعية أو صناعية، ومهما كلفنا ذلك من تضحيات، لذلك استقر التخطيط الإستراتيجي على الأسس الرئيسة التالية:
العمل على حرمان القوات “الإسرائيلية” من مزايا توجيه الضربة الأولى، وأن نبدأ نحن بتوجيهها والاستفادة من مزايا المبادأة والمفاجأة في الوقت نفسه.
شلْ فاعلية القوات الجوية “الإسرائيلية” المتفوقة وإضعافها بإنشاء منظومة دفاع جوي قوي بالتعاون مع القوات الجوية.
شلْ فاعلية القوات المدرعة “الإسرائيلية” في المرحلة الافتتاحية للحرب، التي أعدت لتدمير قواتنا التي تنجح في اقتحام قناة السويس بالمشاة المترجلين على أن يتم عبور المدرعات وباقي الأسلحة والمعدات الثقيلة على معابر المعديات والكباري التي لا ينتظر تشغيلها قبل آخر ضوء من اليوم الأول قتال «6 أكتوبر».
عرقلة وصول الاحتياطيات “الإسرائيلية” من العمق وتشتيت جهودها وبث الذعر على خطوط مواصلاتها بواسطة قوات الصاعقة ومجموعات خلف الخطوط.
التنسيق مع الجبهة الشمالية في سورية لشن الحرب في توقيت واحد لتشتيت جهود القوات “الإسرائيلية” على الجبهتين وإجبارهم على العمل والقتال من على خطوط خارجية.
وحيث إن نظرية الأمن “الإسرائيلية” (والخاصة بالحدود الآمنة) يعتمد نجاحها على توفير المعلومات المبكرة عن استعدادنا ونوايانا الهجومية، فقد كان لزاماً علينا أن نبذل كل جهد لتضليل وخداع مخابراتهم وتحقيق المفاجأة.
كذلك، كان علينا إهدار قيمة التواجد للقوات “الإسرائيلية” في شرم الشيخ وبالتالي يلزم عرقلة خطوط مواصلاتهم البحرية في البحر الأحمر وقفل مضيق باب المندب.
وكان الأساس الثالث للإستراتيجية المصرية:
يختص بإعداد الدولة للحرب، وفي هذا الشأن كانت القوات المسلحة هي العامل الرئيس، خاصة فيما يتعلق بالتسليح، وكان مصدرنا الوحيد يرتكز على الاتحاد السوفييتي السابق الذي كانت له إستراتيجيته وسياسته في المنطقة، خاصة في ظل سياسة الوفاق بين القوتين العظميين التي كانت سائدة في ذلك الوقت.
وبناء على ذلك، تبين لنا أنه لا مجال أمامنا لشن الحرب إلا بما هو متيسر لدينا، والمطلوب هو رفع كفاءتها وتطويرها وإذكائها وزيادة أعمارها الافتراضية، وأن التخطيط السليم والتنفيذ الجريء والروح القتالية والمعنوية العالية هي التي تعوض ما نحتاج إليه، وهي أمور أخطأ العدو تقديرها، كما أساء التقدير عندما قررت مصر الاستغناء عن الخبراء السوفييت في يوليو 1972، وكنا نغذي هذه المفاهيم الخاطئة لدى المخابرات “الإسرائيلية” كجزء من خطة الخداع الإستراتيجي.
الأساس الرابع للإستراتيجية المصرية:
كان يتعلق بدور الطاقات العربية، فقد تأسست الإستراتيجية المصرية على شن الحرب وإدارة الصراع المسلح بالإمكانيات الذاتية بالتنسيق مع سورية، وأن القتال نفسه سيتيح الفرصة لاستغلال الطاقات العربية، وعلى ضوء هذه الأسس، بالإضافة إلى الكثير من الاعتبارات والمبادئ وضعت الفكرة الإستراتيجية للحرب وبتخطيط كان مصرياً خالصاً، فكان النصر بفضل من الله سبحانه وتعالى.