دخل الإسلام اليونان في النصف الأول من القرن الهجري الثاني، عندما فتح المسلمون بعض الجزر اليونانية مثل جزيرتي «رودس» و«كريت»، في عام 210هـ، بقيادة أبو حفص عمر الأندلسي، وانتشر الإسلام في أغلب الجزر اليونانية، وتجذر الوجود الإسلامي هناك بفتح المسلمين لشبه جزيرة البلقان.
وتم فتح مقدونيا في عام 782هـ/ 1380م، ثم امتدت مسيرة الإسلام إلى وسط اليونان، وخضع اليونانيون للحكم الإسلامي لعدة قرون، تأسست خلالها حضارة إسلامية راقية، وشُيّدت مئات المساجد ودور التعليم والمكتبات الإسلامية، ونشطت حركة التأليف في مختلف العلوم والمعارف الإسلامية والإنسانية، وظلت اليونان مقصد العلماء وطلاب العلم، فتزايدت أعداد المسلمين حتى بلغت أكثر من %60 من إجمالي عدد السكان حتى عام 1913م.
يعد انتشار المسلمين في أنحاء مختلفة في اليونان، حتى الآن، أنصع وأكبر دليل على أنهم كانوا أغلبية في هذا البلد، وكان يمكن للدولة الإسلامية العثمانية التي حكمت هذا البلد قروناً أن تستأصل غير المسلمين لو أرادت، ولكن الإسلام هو الذي منعها من ذلك، ولذلك فاستمرار الوجود المسيحي التقليدي في اليونان ذاتها قروناً طويلة دليل دامغ على تسامح الإسلام، وفي الوقت ذاته، يعد استمرار الاضطهاد غير المبرر للمسلمين ليس في اليونان (مهد الديمقراطية!) وحدها ولكن في كافة أنحاء القارة الأوروبية دليلاً قوياً على عنصرية وهمجية وبربرية الغرب، الذي يدعي المدنية والتقدمية والتسامح كذباً وزوراً.
ينتمي المسلمون في اليونان إلى عدة أصول؛ فمنهم الأتراك ومنهم البلقان والبوماك والألبان، ومنهم اليونانيون أيضاً، وينتشرون في مناطق عدة، من أهمها:
– تراقيا الغربية: مساحتها 8758 كيلومتراً مربعاً، وعدد سكانها حوالي 400 ألف نسمة، ويقطنها أغلبية المسلمين في اليونان، وكانت هذه المنطقة تابعة لتركيا حتى نهاية الحرب العالمية الأولى ثم احتلتها اليونان بعد ذلك، وقد كفلت معاهدة «لوزان» تحقيق المساواة والعدالة للمسلمين بها، وعدم المساس بمعتقداتهم ومساجدهم ومدارسهم وأوقافهم، لكن المعاهدة لم تُحترم، وبسبب اضطهاد المسلمين انخفض عدد قراهم من 300 إلى 40 قرية فقط.
– مقدونيا: وتقع شمالي اليونان، وعدد المسلمين فيها يتجاوز 15 ألف نسمة، وهم من الألبان واليونان والبوماك والغجر، وهؤلاء يعانون من التفكك والضياع بصورة مأساوية.
– منطقة بحر إيجة: خاصة جزيرتي رودس وكوس والجزر القريبة من تركيا، ويخشى على المسلمين فيها من الانفتاح والذوبان بالمجتمعات غير المسلمة.
– منطقة شماريا (على الحدود الألبانية اليونانية): تبلغ مساحتها 15 ألف كيلومتر مربع، ولا يعرف عدد المسلمين فيها على وجه الدقة، لكن المصادر التركية عام 1910م قدَّرتهم بـ83 ألفاً، والإحصاء اليوناني للسكان عام 1936م قدرهم بـ26 ألفاً.
– أثينا (العاصمة): بها عدد من المسلمين منذ العهد التركي، وهاجر إليها عدد آخر من المسلمين والألبان من مناطق مختلفة، كما تقيم بها جالية مسلمة من بعض الدول العربية، ويتجاوز عدد المسلمين بها 150 ألف نسمة.
إبادة المسلمين
تنقسم المذابح التي تعرض لها المسلمون في اليونان إلى فترتين؛ الأولى: حدثت إبان ما يسمى بحرب الاستقلال اليونانية، والثانية: في الفترة الواقعة بين الحربين العالميتين الأولى والثانية.
أولاً: المذابح إبان حرب الاستقلال:
قام اليونانيون خلال ما يسمى بحرب الاستقلال اليونانية بمجازر بحق المسلمين في المنطقة، وقد أعلنت بعض المناطق اليونانية قضاءها على جميع المسلمين الموجودين فيها، وشرع جانب آخر من اليونانيين بمهاجمة السفن التركية على الشواطئ اليونانية، وقتل كل من فيها من الأتراك، وقد أشار المؤرخ «وليام أوجدن نيلس» إلى أنه تم قتل 3 آلاف شخص من هؤلاء في أغسطس فقط من عام 1821م.
– مجزرة شبه جزيرة بيلوبونيز:
نفذ اليونانيون إعدامات جماعية بحق جميع السكان المسلمين في منطقة بيلوبونيز، ويذكر المؤرخون أنه تم قتل أكثر من 20 ألف مسلم في شبه الجزيرة بمباركة قساوسة كنائس المنطقة، ويقدر بعض المؤرخين الآخرين أن عدد قتلى المسلمين كان 15 ألفاً.
– مذابح تربوليتشا:
يقدر المؤرخون أن عدد الذين قتلوا في مذابح تربوليتشا يصل إلى 35 ألف شخص، وفي المذبحة قام الروس واليونانيون بمدينة ميسترس عام 1770م بقتل أعداد هائلة من المسلمين، وتذكر المصادر أنهم قاموا بإلقاء الأطفال المسلمين من أعلى المآذن.
ويذكر المؤرخ «نيلس» أنه تم قتل جميع المسلمين في مدينة باتراس وفي قرية مونامفاسا وغيرها من قرى المسلمين، وطبقاً لـ«وليام س. ت. كلير»، فإن الإبادة في بيلوبونيز انتهت عندما لم يبقَ تركي مسلم يقتلونه.
– مجزرة نافرين:
أسفرت مجزرة نافرين التي ارتكبت بحق المسلمين في أغسطس 1821م عن مقتل سكان مدينة نافرين البالغ عددهم 30 ألفاً ما عدا 160 منهم تمكنوا من الهرب، وذلك على أيدي اليونانيين رغم الاتفاق على تهجير شعب نافرين إلى مصر.
ولاحظ المؤرخ «جورج فينلاي» أن قسّاً يونانياً يدعى «فراتنزيس» كان شاهد عيان للمذابح، وقد كتب واصفاً المجزرة: «الأمهات تم تجريدهن من ملابسهن، (فاندفعن للبحر) حيث غرقن لإخفاء أنفسهن من العار وهن يحملن أطفالهن الذين غرقوا هم أيضاً، ومع ذلك انهال عليهن القناصون اللاإنسانيون بالبنادق، واستولى اليونانيون على بعض الرضع من بين أمهاتهم وحطموا رؤوسهم في الصخور، وتم إلقاء الأطفال، الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و4 سنوات في البحر وتركوهم ليغرقوا، وعندما انتهت المجزرة، جرفت الجثث إلى الشاطئ لتنتشر الأوبئة»!
– مذابح جزر بحر إيجة:
تم ذبح المسلمين الموجودين في جزر بحر إيجة من قبل اليونانيين، ففي مارس 1821م، أعد اليونانيون هجوماً على جزيرة خيوس، وقتلوا المسلمين هناك، وقاموا بمهاجمة السفن التركية التجارية المارة من المنطقة والسفن الوافدة والمتجهة إلى الحج، وقتلوا المسافرين والبحّارة، وقد أوضح «ثيدروس كولوكرنس» أنه تم قتل أكثر من 90 مسلماً في جزيرة هيدرا، وتم قتل كامل المسلمين الموجودين بالجزر والسفن التي ظفروا بها.
ثانياً: المذابح في النصف الأول من القرن العشرين:
المذابح سياسة دائمة وإستراتيجية ثابتة لليونان؛ ففي الحرب العالمية الأولى التي استغلتها اليونان لمواصلة التوسع والتطهير العرقي للمسلمين، جاء البروفيسور «أرنولد توينبي»، المؤرخ الشهير، مراسلاً ومحللاً لصحيفة «الجارديان»، وكان يحمل لقب أستاذ في اللغة البيزنطية واليونانية الحديثة، والأدب والتاريخ في جامعة لندن، ولم يكن «توينبي» صديقاً للأتراك في أثناء الحرب، وتوقع أن يرى أعمالاً نبيلة من اليونانيين ورديئة من الأتراك، لكنه بعد أن اطلع على مجازر يالوفا وكيملك، وحقق بعد ذلك في التدمير المتواصل في إزمير، استنتج أن الحكومة اليونانية هي التي خططت لمجازر الأتراك وطردهم.
– إبادة عرقية برعاية أوروبية:
وقد تحدث «توينبي» بعد زيارته غرب الأناضول، من يونيو إلى أغسطس 1921م، عن «حرب إبادة يونانية»، وكتب عن الدمار في المناطق المحتلة من قبل اليونانيين، بين 16 مايو و10 يوليو، ذاكراً أن سكان 16 قرية في ناحية أخيسار قد ذبحوا، بالإضافة إلى سكان 25 – 30 قرية في ناحية سوغندير، وسكان 14 قرية في منطقة أيدين، ثم عدّد القرى التي نهبت فقط، لكن من غير المؤكد ما إذا كان سكانها قد سلموا من ذلك العذاب الذي أصاب الآخرين، وقد تم تدمير 82 قرية بين أكهيسار ومانيسا، و60 قرية في نواحي تاير، وبايندير، وأوديميس، و15 في منطقة يالوفا.
– مجزرة يالوفا:
وقعت مجزرة يالوفا في أبريل ومايو 1921م، حيث قام اليونانيون والأرمن بارتكاب ما لا يحصى من الفظائع ضد المسلمين في منطقة تسمى يالوفا، فأحرقوا كل قرى المنطقة (ما يقرب من 27 قرية مسلمة)، وقتلوا حوالي 10 آلاف مسلم، غير الاغتصاب والتشريد، حسب مراسل «الجارديان» آنذاك الفيلسوف الإنجليزي «توينبي».
– إبادة مسلمي شاميريا الألبان:
قام جنرال يوناني يدعى «نابليون زيرفاس» بشن حملات إبادة جماعية على سكان إقليم شاميريا الألبان، إبان الحرب العالمية الثانية، وكانت معظم مناطق الإقليم (الواقع بين ألبانيا واليونان) قد سلمت إلى الأخيرة في «مؤتمر السفراء» عام 1913م، والتقديرات الدولية للمغدورين تُشير إلى مقتل 5 آلاف من سكان الإقليم، وتهجير 35 ألفاً آخرين، بالإضافة إلى تدمير 68 قرية، وحرق 5800 بيت، وتدمير 100 مسجد أثناء حملات الإبادة اليونانية.
والآن لا يعرف عدد المسلمين في شاميريا على وجه الدقة، فالمصادر التركية عام 1910م قدرتهم بـ83 ألفاً، والإحصاء اليوناني للسكان عام 1936م قدرهم بـ26 ألفاً، ولم تعلن الحكومة اليونانية إحصاءات حديثة يمكن الاستناد إليها في معرفة أعداد المسلمين في تلك المنطقة، غير أن مصادر معتمدة تذكر أن نسبة المسلمين في اليونان عموماً تبلغ حوالي %1.5 من السكان البالغ عددهم 10.707.135 مليون نسمة.
– تراقيا الغربية.. انتهاكات مستمرة وحرمان من الحقوق الأساسية:
منذ توقيع اتفاقية التبادل السكاني قبل أكثر من 97 عاماً، ما زالت الأقلية المسلمة التي تسكن إقليم تراقيا الغربي تعاني مشكلات متنوعة وانتهاكات مستمرة وحرماناً من أقل الحقوق الإنسانية، بدءاً من استثنائهم من اتفاقية التبادل السكاني، مروراً بالانتهاكات الشديدة للحقوق الأساسية إبان فترة حكم العسكر لليونان ابتداءً من عام 1967م حتى سقوطهم في أعقاب «عملية السلام» التركية في جزيرة قبرص عام 1974م، وصولاً إلى رفض الحكومة اليونانية الاعتراف بهويتهم العرقية، فضلاً عن التدخل في شؤونهم الدينية والتعليمية.
وظلت اليونان (التي استقلت عن الدولة العثمانية في عام 1832م) بها أغلبية من المسلمين حتى بداية القرن العشرين، وكان من المستحيل تغيير التركيبة السكانية لليونان لتصبح ذات أغلبية مسيحية أرثوذكسية إلا بحركة تهجير وتبادل سكانية تجمع شتات اليونانيين من أنحاء العالم، وتتخلص من الأغلبية السكانية المسلمة.
والتبادل السكاني خطة فكر بها رئيس الوزراء اليوناني «إلفثيريوس فينيزيلوس»، حتى قبل الحرب العالمية الأولى، وقدمها في رسالة إلى عصبة الأمم، في 16 أكتوبر 1922م، اقترح «فينيزيلوس» «التبادل الإلزامي للسكان اليونانيين والأتراك»، وطلب من «فريتيوف نانسين» اتخاذ الترتيبات اللازمة، وقد أبرمت اتفاقية التبادل السكاني بين اليونان وتركيا في لوزان بسويسرا، في 30 يناير 1923م، وشملت ما لا يقل عن 1.6 مليون شخص (1221489 أرثوذكسياً يونانياً من آسيا الصغرى (الأناضول)، وتراقيا الشرقية، وجبال بونتيك، والقوقاز، وحوالي 400 ألف مسلم من اليونان)، معظمهم أُجبروا على اللجوء قسرياً ونزعت جنسيات أوطانهم عنهم بحكم القانون.
وهكذا حقق اليونانيون المتعصبون حلمهم في تحويل اليونان لدولة أرثوذكسية شبه خالصة، وتوالت الخطط اليونانية لتحويل اليونان لدولة مسيحية أرثوذكسية خالصة.
إلغاء الشريعة الإسلاميَّة:
في 9 يناير 2018م، ألغى البرلمان اليوناني النظام الخاص بالمسلمين الذي يعتبر الشريعة الإسلامية مرجعاً للفصل في شؤون الطلاق والزواج والإرث بين المسلمين بالبلاد، ووفق القانون الجديد؛ أصبحت المحاكم المدنية صاحبة الصفة لتسوية شؤون الزواج والطلاق والإرث للمسلمين، وأصبح اللجوء إلى الشريعة الإسلامية كمرجع لحل مسائل الأحوال الشخصية غير ممكن إلا في حال موافقة كل الأطراف المعنيّة.
وبهذا ألغت اليونان الامتياز الخاص بالمسلمين البالغ من العُمر حوالي 100 عام، وهو يرجع إلى فترة عقد معاهدة لوزان عام 1923م، التي رسمت الحدود بين اليونان وتركيا الجديدة المنبثقة عن السلطنة العثمانية، وفي تلك الفترة وافقت السلطات اليونانية على أن تكون شؤون الزواج والطلاق والإرث لدى الأقلية المسلمة حصراً بأيدي مفتين.
وتضمن معاهدة أثينا الموقَّعة بين اليونان والدولة العثمانية عام 1913م، التي أدخلتها اليونان حيز التنفيذ منذ عام 1920م، عدم التدخُّل في الشؤون الدينية للأقلية المسلمة في تراقيا، بالإضافة إلى ضمان حرية اختيار الجالية المسلمة (ذات الأغلبية التركية) في اليونان للمفتين، إلا أنه منذ عام 1991م ألغت اليونان العمل بالاتفاقية بشكل ينتهك القانون الدولي، وبدأت بنفسها بشكل غير قانوني تعيّن المفتين.
وقد رفض غالبية الأتراك المسلمين الاعتراف بالمفتين الذين عيّنتهم اليونان، وبدؤوا انتخاب مفتيهم الخاصين؛ الأمر الذي لم تقابله اليونان بالرفض فقط، بل تجاوزته إلى حد محاكمة المفتين المنتخَبين وتعريضهم لمجموعة من العقوبات التعسفية.
ففي منتصف يونيو 2021م، أصدرت محكمة يونانية حكماً بالسجن لمدة 15 شهراً بحقّ «أحمد مته»، مفتي مدينة إسكتشا بمنطقة تراقيا الغربية شمال شرقي اليونان، بسبب خطاب ألقاه في مؤتمر لحزب «الصداقة والمساواة والسلام» منذ عام 2016م، وقد صرح «مته» بأن «الدولة اليونانية حرمت دار الإفتاء من حقها في ترميم وتجديد المساجد، كما عمدت إلى إجبار الأئمة على رفع الأذان بصوت منخفض، وفرض بعض الشخصيات غير المنتخَبة على المؤسسات التابعة لدار الإفتاء».
التعليم ومشكلات أخرى:
التعليم من أبرز المشكلات التي تعاني منها الأقلية المسلمة في اليونان، فعلى الرغم من توقيع اتفاقية للتعليم بين تركيا واليونان عام 1951م، فإن المسلمين في تراقيا الغربية وبعض الجزر الرئيسة يواجهون مشكلات مفتعَلة من الحكومة اليونانية، تجعل محاولاتهم لترميم المدارس الحالية وفتح مدارس وحضانات أطفال تدرّس باللغتين التركية واليونانية أمراً صعباً للغاية، فضلاً عن إغلاق الحكومة اليونانية عديداً من المدارس التركية في السنوات الأخيرة بحجة انخفاض معدل التسجيل.
وإلى جانب التعليم، تواجه الأقلية التركية مشكلات خطيرة أخرى، تتمثل في سلب الحكومة اليونانية حق التمثيل الديمقراطي للمسلمين اليونانيين، فمن أجل منع انتخاب نواب مستقلين من الأقلية المسلمة، حددت اليونان عام 1993م العتبة الانتخابية لدخول البرلمان اليوناني بنسبة %3، سواء للأحزاب السياسية أو المرشحين المستقلين، وذلك لإجبار المرشحين المسلمين على دخول الأحزاب السياسية اليونانية الرئيسة الأخرى.
وقد حُرم نحو 60 ألفاً من مسلمي تراقيا الغربية وبعض الجزر اليونانية من جنسيتهم اليونانية، بموجب المادة (19) من قانون المواطنة اليونانية الذي سُنّ عام 1955م، فضلاً عن عدم السماح ببناء مساجد في المدن اليونانية الرئيسة، رغم عيش مئات الآلاف من المسلمين فيها، ورغم مطالبتهم المتكررة بوجود مساجد للمسلمين هناك.
عشرات الآلاف بلا مساجد ولا مقابر:
في العاصمة اليونانية أثينا التي يسكنها عشرات الآلاف من المسلمين، لا يوجد إلا مسجد واحد تم افتتاحه في أواخر العام الماضي (2020م) يسع 350 رجلاً و50 امرأة فقط، وكذلك لا توجد مقابر للمسلمين ويضطر المسلمون لنقل موتاهم إلى مدينة كوموتيني (شمال شرق اليونان) على بعد نحو 750 كيلومتراً من أثينا، حيث توجد مقبرة للمسلمين.
محنة الكريتيين:
مثل اليونان كان غالبية السكان في جزيرة كريت التي تسمى «إقريطش» باللغة العربية من المسلمين؛ مسلمين يونانيين، لحماً ودماً، ولكنهم أرغموا على الرحيل فقط لكونهم مسلمين، بعد ما سُمي بالاستقلال اليوناني، ففُتن المسلمون اليونانيون في دينهم، وكانوا يُخيَّرون بين التخلي عن دينهم أو القتل أو التهجير، فاختار أغلبهم هجرة أرض الآباء والأجداد، واختار بعضهم اعتناق النصرانية، وظل بعضهم قابضاً على دينه محتفظاً بأرضه.
يقول شكيب أرسلان، في كتاب «تاريخ بن خلدون»: «في عام 1898م، ومع إعلان دولة كريت، قام اليونانيون الأرثوذكس بتهجير مسلمي الجزيرة الذين قُدر عددهم (آنذاك) بحوالي 450 ألف مسلم من جزيرة كريت؛ فكانت برقة الملجأ لبعضهم وربما أقام بها ما يقرب من ألف أسرة مسلمة، وانصهروا مع السكان بصفتهم مسلمين وما زالوا يحتفظون بأسمائهم الكريتية حتى الآن واستقروا في بنغازي ودرنة وسوسة وشحات وغيرها من مدن برقة».
تشرد الكريتيون اليونانيون المسلمون، وهم الآن بالملايين، في تركيا وسورية ولبنان ومصر وليبيا وتونس، ولكنهم ما زالوا يذكرون موطنهم الأصلي، ويحنون إليه، بعضهم ما زال يتحدث لغة الأجداد، وبعضهم تواصل مع أقارب له احتفظوا بالدين الذي ورثوه، فظلوا في أرض الأجداد، يقول تحسين علي الكريدلي، في كتابه «جزيرة كـريت فـي التاريــخ العربــي والإسلامي»: «أنـا شـخصياً منذ نعومة أظفـاري أعلم أن الاسم الأصلي لعائلتـي هو «فانورياكي»، وبأنها ذات أصول مسـيحية مـن مدينـة خانيـا، وأنهـم اسـتمروا بعـد إسلامهم علـى صلـة وثيقـة مـن التعايـش بوئـام وتسـامح ومحبـة مـع أبنـاء أقربائهـم الذيـن بقـوا علـى الديـن الـذي ورثـوه عـن آبائهـم، واسـتمروا علـى هـذه الحال إلـى أن تم إجـلاء الأتراك عـن جزيـرة كريـت مـن قبـل الإنجليز وحلفائهـم الذيـن راحـوا ينحـازون ضدهـم ويعملـون علـى تأجيـج العـداوة بينهـم وبـين إخوانهـم في المواطنة الذيـن ربمـا يكونـون مـن أبنـاء عمومتهــم؛ ممــا أدى لانحراف بعــض المتزمتين وانقــادوا وراء هــذه الفتنــة المدمرة، وهــذا الأمر كان مــن أســباب اضطــرار أجدادنــا لهجــرة أرض آبائهـم وأجدادهـم، بالطبــع لقــد تقطعــت بنــا الســبل بعــد هجرتنــا لأرض الآباء والأجداد، وبدأنــا بعــد تطــور أجهــزة الاتصال والتواصـل الحديثة في فتــرة متأخــرة في البحــث عــن بعضنــا بعــضاً».
لكن الكريدلي لم ييأس، واستطاع أن يصل إلى أقاربه من الذين احتفظوا بديانتهم المسيحية وهم بالعشرات، بل استطاع أن يصل لجد العائلة الأكبر وهو شاب يوناني مسيحي هاجر إلى كريت وتزوج من فتاة كريتية يونانية مسيحية، وأنجب 4 أبناء اعتنق اثنان منهم الإسلام، وانقسمت العائلة لفرعين؛ فرع مسلم وآخر مسيحي تعايشا في سلام ووئام حتى سقطت كريت واليونان في قبضة التعصب والإرهاب الأرثوذكسي، بعد استقلال اليونان.