يتبادر إلى الذهن – أحيانًا – عند تداول معنى محاسبة النفس صور من محاسبة الصحابة والسلف لأنفسهم، وغالبًا ما تقشعر أجسادنا من بعض هذه الطرق أحيانًا، لكننا لا نلتفت إلى صور من محاسبة النفس في واقعنا المعاصر، مما يناسب مفاهيمنا وحياتنا ومعاشنا.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} (الحشر:18). يقول الماوردي: “محاسبة النفس أن يتصفح الإنسان في ليله ما صدر من أفعاله نهارَه، فإن كان محمودًا أمضاه، وأتبعه بما شاكله، وضاهاه، وإن كان مذمومًا استدركه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل”(1).
وسنورد فيما يلي بعضًا من طرق محاسبة النفس في واقعنا المعاصر:
1 – طريقة ورد المحاسبة:
وهي طريقة جيدة؛ تقوم على “استعراض أعمال اليوم ساعة النوم، فإن وجد الأخ خيرًا فليحمد الله، وإن وجد غير ذلك فليستغفر وليسأل ربه ثم يجدد التوبة وينام على أفضل العزائم”(2).
وتعتمد تلك الطريقة على السؤال المباشر، مثل:
هل صليت الفجر في جماعة؟
هل قرأت وردك من القرآن؟
هل حافظت على أذكار الصباح والمساء؟
هل انشغلت بإصلاح عيوبك عن عيوب غيرك؟
هل جاهدت نفسك على أن تكون من المتقين وابتعدت عن الفتور في العبادة؟
وهناك عشرات الأسئلة غيرها يمكن للمرء أن يسألها لنفسه كل يوم قبل النوم.
وأصبح الأمر يصمم الآن –تسهيلًا على الناس- في جداول وكتيبات، وتقسم الأعمال فيه إلى أعمال اليوم والأسبوع والشهر، مع التنويع بين العبادات والأخلاق والطباع والسجايا.
ولو استطاع كل منا أن يلزم بيته وأسرته بذلك – من باب الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة – لرأيت العجب العجاب من أَوْبَةِ الناس إلى خالقهم، ومن تحسُّن وارتقاء أخلاقياتهم.
إنا لنفـرح بالأيـام نقـطـعهـا فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدًا
وكل يوم مضى يدني من الأجـل فإنما الربح والخسران في العمـل
2 – طريقة الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله):
وللشيخ محمد الغزالي (رحمه الله)، طريقة أخرى عجيبة، اتبعها في أول حياته وهو يرمق الحياة من حوله بعين بصيرة، ونفس لوّامة.
يقول (رحمه الله): “في صدر شبابي الأول كنت دقيقًا في محاسبة نفسي، وكنت أرسم برامج قصيرة الأجل للتطهر مما أحقره من خلال وأعمال، وأذكر أنني استعنت بإحدى المفكرات السنوية لإثبات الأطوار التي أنتقل بينها من الناحيتين الذهنية والنفسية، وإن كنتُ فشلتُ آخر الأمر في استدامة هذا الأسلوب.
ويرجع فشلي إلى أنني أطلب النتائج المستحبة بسرعة، على حين أكون محاصرًا بظروف لا تسمح بذلك أبدًا.
وقد مزقت هذه المفكرة في ساعة يأس، لأني نظرت في صفحاتها -وكنت أدون حالتي بأمانة- فوجدتها لا تشير إلى أي تقدم، كانت أشبه بملف مريض، لا تتغير حالته مع عظم العناية وعناء السهر.
وأحس الآن –والكلام للشيخ الغزالي (رحمه الله)- أني أخطأت في الاستجابة لهذا اليأس؛ لأني نظرت للأمر من ناحية ضيقة، ناحية الحصول على نتائج معينة في أيام محدودة، جاهلًا أو متجاهلًا ما يكتنف النفس من وُعورة طباعها الرديئة، ومن عوائق البيئة التي لا حصر لها.
كنت كالسباح الذي يعارك أنواء عاتية؛ حسبه -إن وقف في مكانه- أنه لم يتأخر، وأنه لم يغرق، وهذا ضرب من النجاح، يتبعه مع الصبر الجميل إحراز النجاح الكامل.
وقد فاتني هذا الدرس وأنا شاب أتطلع إلى الفضيلة والكمال، وأتعشق المثل العليا؛ ذلك لأن في بلادنا أزمة طاحنة في المربين الأخيار”.
ويتابع الشيخ الغزالي قائلًا: “وحدث وأنا غلام في مرحلة التعليم الثانوي أن اجتاح قريتنا حديث عن الأشباح التي تظهر بالليل، وشعرت بوجل يملكني وأنا أستمع إلى أنباء هذه الكائنات الخفية، ثم أنكرت من نفسي هذا الفزع الذي لا ينبغي أن يخامر مؤمنًا، فإن المؤمن يخشى الله وحده”، إلى أن قال (رحمه الله): “لقد قررت أن أدخل هذه المقابر من طريق، وأخرج من طريق آخر، وأن أكرر هذه الجولة في ليال عدة لأغالب في نفسي هذا الخوف الذي لا يليق بي” (في السنة نهي عن مثل هذا السير المنفرد).
ثم يبين لنا الشيخ (رحمه الله) ما يعترض مسيرة حساب النفس من أخطار، فيقول: “لقد كنت في ميدان الرياضة النفسية أتعسف الطريق أحيانًا كثيرة لقلة المرشدين الذي يرعون الناشئة، وندرة الثقافات التي تأخذ بناصيتهم إلى الصراط المستقيم، ومع ما خلفته في أعصابي هذه المحاولات المضنية، فلست آسفًا على ما بذلتُ من جهد، أخطأتُ فيه أو أصبتُ، فلأن أشتط في حساب نفسي أفضل من أن أدعها تنطلق من غير حساب”(3).
3- طريقة “بنيامين فرانكلين”:
والعجيب أن محاسبة النفس لم تقتصر على المسلمين فحسب؛ بل رأينا بعض الغربيين يعتمدون مثل هذا المنهج الإسلامي في محاسبة أنفسهم، مثل “بنيامين فرانكلين” –من أهم مؤسسي الولايات المتحدة- ومما يُذكر له أنه كان ينصب لنفسه كل مساء محاكمة عسيرة يمكن أن نصفها بالمراجعة والتبويب أو محاسبة النفس بكل ما تضطرب به من ألوان الانتصارات أو الهزائم، ويقال إنه قد اكتشف حوالي ثلاثة عشر خطأً جسيمًا كان يقترفها على الدوام، وأهم هذه الأخطاء ثلاثة هي:
أ- تضييع الوقت سدى.
ب- الانشغال بالتوافه.
جـ- الجدال مع الناس على غير طائل.
ولقد أدرك فرانكلين أنه إذا لم يتخلص من هذه الأخطاء فإنه لن يحرز تقدمًا يُذكر في الحياة، ولن يكون شخصًا ذا قيمة في المجتمع، وانطلاقًا من هذا الادراك وهذا الوعي الذاتي قرر فرانكلين أن يتخلص تدريجيًا من هذه الأخطاء، فعمد إلى تخصيص أسبوع لمحاربة كل نقيصه من تلك النقائص التي كان يعانيها، كما أفرد سجلًا يدون فيه يومًا بيوم أنباء انتصاره على نقائصه أو اندحاره أمامها.
ولقد لبث فرانكلين – أو ريتشارد الفقير كما كان يكتب في مذكراته – حولين كاملين وهو في حرب سجال مع نقائصه أو أخطائه حتى استطاع أن يتغلب عليها(4).
4 – طريقة ديل كارنيجي:
أما “ديل كارنيجي” فقد كان شبيهًا بحكماء المتصوفة عندما نوّه بضرورة محاسبة النفس، بل إنه كان يذهب إلى تدوين السيئات فحسب، على أساس أن المرء يعنيه تلافي أخطائه، والنّجاة مستقبلًا مما وقع فيه آنفًا.
يقول: في أحد أدراج مكتبي ملف خاص مكتوب عليه: حماقات ارتكبتُها!! وأنا أعدُّ هذا الملف سجلًا وافيًا للأخطاء التي وقعتُ فيها، وبعض هذه الأخطاء أمليته، والبعض الآخر خجلتُ من إملائه فكتبتُه بنفسي، ولو أنني كنت أمينًا مع نفسي لكان الأرجح أن يمتلئ مكتبي بأمثال هذه الملفات المليئة بالأخطاء والحماقات”!!
ويواصل كارنيجي قائلًا: “عندما أستخرج سجل أخطائي، وأعيد قراءة الانتقادات التي وجهتُها لنفسي، أحس أنني قادر على مواجهة أقسى وأعصى المشكلات مستعينًا بعبر الماضي الذي دونته.
لقد اعتدتُ أن أُلقي على الناس تبعة ما أواجه من مشكلات، لكن بعد أن تقدمت بي السن وازدادت حكمتي- فيما أخال- أدركت أنني وحدي المسئول عما أصابني من سوء.
وفي ظني أن كثيرًا من الناس يصلون إلى هذه النتيجة نفسها عندما يدرسون أنفسهم”.
ورسخ في ذهن فرانكلين أنه ما لم يتخلص من هذه الأخطاء فلن يتقدم في الحياة شيئًا يُذكر، ومن ثم عمد إلى تخصيص أسبوع لمحاربة كل نقيصة من نقائصه على التوالي، وأفرد سجلاً يدون فيه يومًا بيوم أنباء انتصاره على نقائصه أو هزيمته أمامها. ولقد لبث الرجل في حرب ضد أخطائه أكثر من عامين، فلا عجب أن غدا واحدًا من أعظم رجالات أمريكا” (5).
إن محاسبة النفس شيء دقيق وشديد في الوقت ذاته، وهو يحتاج إلى طول نفس وصبر، قد يستغرق عامين عند بعض الناس وقد يطول إلى حولين عند البعض الآخر؛ فلا تيأس إن أردت لنفسك النجاح في الدنيا والرضا في الآخرة.
_____________________________________
(1) الماوردي، أدب الدنيا والدين، ص360-361.
(2) حسن البنا، مجموعة الرسائل، رسالة المأثورات.
(3) محمد الغزالي، جدد حياتك، 202: 203.
(4) د. أحمد عبد القادر المهندس، محاسبة النفس، صحيفة الرياض السعودية، العدد 14354، 17 أكتوبر 2007م.
(5) محمد الغزالي، جدد حياتك، 204.